عنب بلدي – إدلب
صوانٍ نحاسية وخناجر مزخرفة تجاورها المسابح العاجية والتحف، مشهد في محلات ما إن تخطو إليها حتى تعود بك الذاكرة إلى عهد سابق، اجتمع فيه الفن والجمال مع البساطة والإتقان.
اشتهرت سوريا بتحفها وفنونها المميزة، من الأرابيسك والبروكار والحرير والسيوف والآثار، وضمت كنوزًا، بعضها أحالته الحرب دمارًا وآخر سُرق وبيع في الخارج، أو ضاع دون تقدير واهتمام في زحمة الهموم المتلاحقة على السوريين.
في إدلب، التي اجتمعت فيها المصاعب الاقتصادية والأمنية، وعلقت أسيرة لدمار البنى التحتية وزحام المخيمات، لم يتوقف حب التراث، وإنما اقتصر على قلة من الهواة، الذين لا يتصورون حياتهم بلا لمحة من الجمال.
“إنقاذ” تراث سوريا
عبر مواقع التواصل الاجتماعي، شُكّلت مجموعات لجامعي التحف والمهتمين بـ”حفظ التراث السوري”، كما قال صاحب متجر “بيت جدي” للتحف، هيثم أبو راشد، لعنب بلدي.
يتشارك جامعو التحف صور مقتنياتهم ومعلوماتهم عنها، ويتبادلون بين بعضهم القطع التي تستهويهم، ويطلبون العون في البحث عن قطع ناقصة من الأطقم النادرة، أو يعرضون قطعًا مميزة أوجدتها المصادفة، بعد أن ضاعت أملاك السوريين ومتاعهم جراء القصف والنزوح.
عند بيع أي غرض يلاحق هيثم “هاجس” تأمين بديل له في محله، ويتساءل عن مصير القطعة المباعة “هل تبقى في سوريا أم تتجه للخارج؟”، معتبرًا أن مهمته كبائع ليست التجارة فحسب ولكن “حفظ التراث” الذي هددته الحرب المستمرة منذ تسع سنوات.
بدأت مهنة “الشرقيات” من أسواق خاصة ضمتها كل مدينة سورية، مثل سوق “النحاسين” في دمشق، وضمت جمع الأواني المزخرفة القديمة التي امتازت بصناعتها اليدوية، وكانت تلقى رواجًا من السياح وهواة جمع التحف النادرة.
وبالنسبة لهيثم، بدأ شغفه بجمع التحف منذ الصغر، مع سعيه لاقتناء ما يجد من قطع شعر بتميزها وما تحمله من ذكرى “الماضي”، وعند افتتاحه لمتجره عمل على جمع ما يستطيع من تحف متنوعة لا تختص بمحافظة دون أخرى، من “المهابيج والسيوف الشامية والخناجر المجدلانية ودلات دير الزور النحاسية”.
لكن اقتناء التحف لم يعد كما كان، بالنسبة لمن يحبها، إذ لا يستطيع النازح والمهجر الاحتفاظ بفازة أو شمعدان في خيمة مهترئة.
حب يعوقه المال
لا تحمل التحف أسعارًا محددة، فحبها والرغبة باقتنائها، إضافة إلى ندرتها، هو ما يحدد الثمن، لكن ذلك لا يترك المهنة دون أخلاقيات للتعامل مع الزبائن، حسبما قال مالك متجر “الشرقيات” عبد الله عبد الله، لعنب بلدي.
عمل عبد الله في مجال “الأنتيكا” منذ 18 عامًا، ويدفعه حب الندرة إلى التجول في أنحاء سوريا لجمع التحف، ولكن الحرب غيرت تلك الوجهة.
أهم ما يميز أعوام الحرب الطويلة هو المصاعب الإنسانية والضائقة المالية التي حولت جمع التحف إلى “كماليات”، لا يقربها سوى الهواة الذين يعتبرونها جزءًا لا يتجزأ من حياتهم.
وتقع التحف ضحية للعرض والطلب، الذي بات شحيحًا في السوق السورية، ولا يوجد تقييم واضح لأسعار التحف وقيمتها، حسبما قال عبد الله، ضاربًا مثالًا بسيف يقيّمه الآن بعشرة آلاف دولار، ولكنه خارج سوريا قد يباع بمليون، في حين لا يقبل السوريون على شرائه ولو بدولار واحد.
وتحمل بعض القطع أختامًا لصناعها، تثبت أصالة القطعة وعمرها، حسبما قال هيثم أبو رشاد، مالك متجر “بيت جدي”، مضيفًا أن لون القطع النحاسية يساعد في تقدير عمرها، ما يمنعه من تلميع القطع التي يملكها، لأن الغبار الذي تحمله يصبح جزءًا من سحرها.
لكن التحف الزجاجية تلقى معاملة مختلفة في المتجر الصغير، الذي يعتني هيثم بقطعه بـ”حب”، حسبما قال، واصفًا عمله بـ”حياته كلها”، واستمتاعه برؤية تحفه كل يوم بـ”نعمة مليئة بالمعاني”.
رغم متاعب العمل التي يعانيها محبو “الأنتيكا”، فإن تركها ليس خيارًا مطروحًا لديهم، والتراث السوري مدفون اليوم تحت أنقاض المنازل، ومرميّ على طرق النزوح والمعارك الطويلة، بحال لا يصفها هيثم سوى بـ”المؤلمة” لكل من يحب التراث وكل من يحب الماضي والجمال.
أسهم في بناء هذه المادة مراسل عنب بلدي في إدلب أنس الخولي