اعتبر الباحث في جامعة سينت آندروز، رشاد قطان، أن الاقتصاد السوري يعيش حالة من الفوضى إثر سنوات من النزاع ووسط عقوبات دولية مشددة، ورغم ذلك، وخلافًا لتوقعات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، صمدت البنوك السورية في وجه العاصفة إلى حد بعيد.
المصارف لم تتوقف
وقال الباحث، في تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست الاثنين 3 آب، إن بحثه الأخير يستقصي أسباب هذا الصمود من خلال إفصاحات المصارف الخاصة المدرجة في البورصة السورية، موضحًا أن أيا من المصارف الستة التي تملكها الدولة لم توقف عملياتها المصرفية رغم الضربة القوية التي تعرضت لها، مع انكماش الاقتصاد والعقوبات الدولية وغياب الاستثمارات العامة والخاصة.
وأضاف أن 14 مصرفًا خاصًا ومعظمها فروع لمصارف عربية إقليمية في لبنان والأردن وقطر والسعودية والكويت والبحرين، قررت البقاء في البلاد على المدى الطويل، رغم الأضرار المادية التي طالت مكاتبها وأفرعها جراء العنف المهيمن في بعض المدن، وجراء سرقات ترتكبها عصابات وميليشيات من جانبي الصراع، إضافة لتشديد الرقابة على التعاملات بالقطع الأجنبي وحالات اختلاس بين موظفيها.
تغييرات “هائلة”
مرونة البنوك وقدرتها على التأقلم تعزا إلى التغيرات الهائلة في القطاع المصرفي خلال العقد الذي سبق اندلاع الثورة، وفق قطان، معتبرًا قرار تحرير القطاع المصرفي في العام 2003 من احتكار الدولة للنظام المالي “لحظة مفصلية” بالنسبة لاقتصاد سوريا وجزءًا من خطة الحكومة بالتوجه نحو “اقتصاد السوق الاجتماعي”، وفق رؤية تتبنى في نهاية المطاف مبادئ “السوق الرأسمالي”.
ويرى قطان أن هدف الأسد كان إصلاح أثر ثلاثة عقود من الهيكلية الشعبوية عبر انتهاج سياسات اقتصادية ليبرالية، ونقل الأصول العامة إلى شبكة من الرأسماليين المقربين من النظام؛ وتوج التخلي عن السياسات الاشتراكية بافتتاح سوق دمشق للأوراق المالية في 2009.
وارتفع عدد الشركات المدرجة في البورصة منذ ذلك الحين وحتى بعد 2011، ويبلغ الآن 23 شركة تغطي قطاعات النقل والإعلام والصناعة والزراعة والمصارف والتأمين. وتهيمن المصارف الخاصة العاملة في سوريا على سعر الصرف والأنشطة التجارية.
التجاري ما زال “الأكبر”
إقصاء المصارف الحكومية لم يكن الهدف من الإصلاحات، بحسب قطان، فالمصرف التجاري ما يزال الأكبر في سوريا من حيث الأصول والعمليات والخدمات، برأس مال يصل إلى 7 مليارات ليرة سورية (قرابة 1.55 مليار بحسب قيمة الصرف البالغة 45 ليرة سورية لكل 1 دولار قبل النزاع)، وهو ما يتجاوز تقريبا مجموع رؤوس أموال المصارف الـ 14 الخاصة.
ومردّ ذلك بشكل رئيسي إلى مركزية التعاملات والودائع الحكومية في المصرف، أي احتكار التجاري لميزانية الدولة وإيراداتها.
نظام المصارف الخاصة الجديد أعاد توزيع حصة السوق الاحتكارية من المصارف الحكومية إلى مقرضين من القطاع الخاص، مع الحفاظ على درجة من الحماية يضمن للمصارف الحكومية احتكار خدماتها المصرفية.
ويتيح هذا “الحل الوسط” توسع القطاع الخاص وإصلاحًا “ظاهريًا” في المؤسسات التي تملكها الدولة.
وأوضح قطان دور ازدهار القطاع المصرفي الخاص في جذب رجال أعمال ذوي نفوذ سياسي، منهم سياسيون سابقون وكبار مسؤولين أمن، إضافة لشركاء عاديين لمؤسسات أجنبية تطلب ترخيصها ملكية سورية بنسبة 49% حتى العام 2010.
وأشار قطان في تقريره إلى هيكلية ملكية متشابكة واستثمارات تشاركية بين مؤسسات صديقة كشفتها إفصاحات المصارف الخاصة المدرجة في سوق الأوراق المالية في دمشق؛ إذ يمتلك رجال أعمال سوريون بارزون، بعضهم فرض عليه عقوبات لدعمه للنظام، نسبة كبيرة من الأسهم، ومقاعد في مجالس الإدارة في عدة مصارف.
جيل جديد من رجال الأعمال
ويظهر البحث أن هناك 23 مستثمرًا على الأقل تجاوزت ملكيتهم المليون سهمًا، واجمالي حصصهم 36 مليون سهمًا، بنسبة 4.5 من اجمالي أسهم المصارف الخاصة.
ويرى قطان أن هذا من أعراض ظهور جيل جديد من “رجال أعمال النظام”، تحولت علاقتهم مع الحكومة من حليف لنظام الأسد إلى عموه الفقري.
وترجم هذا التحالف عبر شراكات تجارية وزيجات بين هذه العائلات، إلى هيمنة “رجال أعمال النظام” على القطاعات الرابحة، بما فيها الطاقة والمصارف والبناء والسياحة، وهذا بدوره ضمن بقاء النظام اقتصاديًا.
عقوبات الغرب “فاشلة”
ويوضح قطان أن عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي على عشرات المسؤولين الأمنيين والسياسيين ورجال الأعمال هي ضمن جهودهم لعزل النظام اقتصاديًا، من خلال قطع الارتباط الوثيق بين التجارة والسياسة في البلاد؛ إلا أن هذه السياسة فشلت فشلًا ذريعًا، كون معظم رجال الأعمال هؤلاء يملكون استثمارات كبيرة داخل سوريا تفوق حساباتهم في الخارج وتعاملاتهم التجارية الخاصة، كما جعلتهم علاقتهم الوطيدة مع النخبة السياسية الحاكمة مسهمين أساسيين في بقاء النظام.
ولم تثمر أكثر من 4 سنوات من العقوبات الصارمة عن انشقاق يذكر لأي من رجال الأعمال عن النظام المحاصر؛ بل وضاعف بعضهم استثماراته رغم المخاطر التشغيلية والأمنية.
واختتم قطان موضحًا بأن استثماراتهم الكبيرة، والحاجة إلى خطة إعادة اعمار بعد انتهاء الصراع سيفوقان احتمال مغادرتهم البلاد. منوهًا إلى المفارقة بأن إعادة البناء مستقبلًا ستكون بأيديهم، مالم تقرر حكومة جديدة مصادرة أموالهم وتوجيه ضربة قوية للقطاع.