عنب بلدي – يامن المغربي
دفعت الثورة السورية عام 2011، عددًا كبيرًا من الشباب السوريين للمشاركة في الحراك المدني والمظاهرات وتنظيمها، ورفعوا فيها شعارات تطالب برحيل النظام والحرية السياسية وتداول السلطة، لكن هذا الاندفاع لم يترجم للانخراط بنشاط سياسي تمثله الأحزاب التي أعلنت معارضتها للأسد، رغم توفر مساحة أوسع للحريات السياسية بالنسبة لآلاف الشباب ممن غادروا سوريا باتجاه أوروبا.
سيطر النظام السوري على الحياة السياسية في سوريا بعد انقلاب الرئيس السابق، حافظ الأسد، على رفاق دربه من البعثيين في عام 1970، وتسلمه مقاليد الحكم بشكل كامل في عام 1971، وإنشائه “الجبهة الوطنية التقدمية” في عام 1972، التي ضمت عددًا من الأحزاب السورية في ذلك الوقت، قبل أن تتوسع في وقت لاحق، مع صعود بشار الأسد في عام 2000 إلى كرسي الحكم، ما حوّل الأحزاب السياسية إلى أسماء مجردة من أي فعل حقيقي في المعارضة، وتداول السلطة، والمشاركة بشكل حقيقي في الحياة السياسية السورية.
الثقة معدومة.. لماذا ابتعد الشباب عن الأحزاب السياسية؟
“لا أملك أي ثقة بالأحزاب السياسية السورية”، هذه الجملة التي قالتها العضو السابق في الحزب “الشيوعي السوري- جناح قاسيون” فرح بيازيد، لعنب بلدي، تعكس فكرة موجودة لدى شريحة واسعة من الشباب السوري سواء في داخل أو خارج سوريا.
وترى فرح، التي انتمت إلى الحزب في عام 2005، أن حرية التعبير لم تكن غائبة لدى حزب “البعث” فقط أو النظام السوري، بل امتدت إلى عدد من الأحزاب السياسية الأخرى، كالحزب “الشيوعي” أو الحزب “القومي السوري الاجتماعي”.
وانضم الحزب “الشيوعي السوري” إلى “الجبهة الوطنية التقدمية” منذ إنشائها عام 1972، بجناحيه (جناح خالد بكداش وجناح يوسف فيصل)، بينما حصل الحزب “القومي” على صفة مراقب في عام 2001.
من جهته، قال العضو في الحزب “الديمقراطي الاجتماعي” الألماني سامر فهد، لعنب بلدي، إنه لا يريد الانتماء أو المشاركة في أحزاب سورية لأنها “غير قادرة على جذب الشباب”، خاصة مع شعورهم باليأس من الطبقة السياسية عمومًا، واعتبار الأحزاب “مرآة وانعكاسًا للعائلية السياسية والمال السياسي وليس انعكاسًا للشباب، الذي ثار لأجل الحرية والعدالة الاجتماعية ودولة القانون”، بحسب رأيه.
منذ تشكيل “المجلس الوطني”، الذي ضم عددًا من الكتل والتيارات السياسية السورية في عام 2011، شُكّلت عشرات الأحزاب السياسية المستقلة والإسلامية والقومية، منها حزب “وعد” في عام 2013 في محافظة إدلب، وحزب “الجمهورية” في مدينة اسطنبول التركية عام 2014، وتيار “قمح” في عام 2015، بالإضافة إلى المنصات السياسية كمنصة “القاهرة” و”موسكو” و”أستانة”.
وبحسب كتاب “الانبثاقات السياسية خلال الثورة السورية”، الصادر عام 2018 عن مركز “حرمون للدراسات” للباحث ساشا العلو، نشأت في سوريا ثلاثة أجسام سياسية ائتلافية بين عامي 2011 و2012، بالإضافة إلى حزب “وعد” و”التيار الوطني السوري” وحركة “سوريا الأم”، وهي حركات وأحزاب إسلامية تدور في فلك جماعة “الإخوان المسلمون”، وفقًا للكتاب.
بينما وصل عدد الانبثاقات السياسية الوطنية إلى تسعة انبثاقات، بينها حزب “الجمهورية” و”اتحاد الديمقراطيين” وتيار “بناء الدولة”.
كما نشأت خمس منصات سياسية، بالإضافة إلى “المجلس الوطني الكردي” و”الإدارة الذاتية” والانبثاقات السياسية التركمانية، التي صنفها الباحث ساشا العلو ضمن الانبثاقات السياسية القومية.
ولا يبدو أن عدم الثقة لدى شريحة واسعة من الشباب السوري هو السبب الوحيد لابتعادهم عن الانتماء إلى الأحزاب السياسية السورية.
محمد الحموي، شاب سوري مقيم في ألمانيا رشح نفسه لانتخابات رديفة للانتخابات البلدية، مخصصة لانتخاب مجلس استشاري للمجلس البلدي بشأن الهجرة والاندماج، قال لعنب بلدي إنه “لم يصل إلى الأحزاب والتشكيلات السورية ولم تصل إليه أيضًا”.
وأوضح محمد، وهو مهندس إلكترون من مدينة داريا في ريف دمشق (31 عامًا)، أنه في مرحلة من المراحل فقد القدرة على التمييز والتفريق من كثرة الهيئات والمؤسسات والتشكيلات التي ظهرت بعد الثورة السورية، وبالتالي لم يعد يملك أي فضول للاطلاع عليها، بحسب تعبيره.
وأضاف أن أغلبية الشباب السوري لم يمارس السياسة أصلًا ليعزف عنها في وقت لاحق، ووفق رأيه، فالواقع يفرض نفسه عبر الانشغال بلقمة العيش التي تعد أهم من إعطاء الرأي في موضوع ما، خاصة أن السياسة تمارس في حال الاستقرار لا الحرب، وأن المشاركة في الثورة “صُنفت خطأ على أنها ممارسة للسياسة”.
بينما اعتبر عضو الحزب “الديمقراطي الاجتماعي” الألماني سامر فهد، أن الشباب السوري يبتعد بشكل عام عن المشاركة السياسية لأسباب خارجة عن إرادته ونتيجة “الإملاءات الغربية على السياسيين والعسكريين المتحكمين بالوضع السياسي والعسكري في سوريا”.
كما أن الدول المؤثرة في الملف السياسي لم تسهم بإنشاء مجموعة ممثلة للشباب السوري في المؤتمرات الدولية، بحسب رأيه.
اهتزازات عميقة في بنية تفكير الشباب
من جهته، قال الدكتور السوري في علم الاجتماع طلال مصطفى، لعنب بلدي، إن التغيرات التي أصابت سوريا بعد الثورة، ثم الحرب واللجوء، أدت إلى “اهتزازات عميقة على المستويات الاجتماعية والسياسية في بنية تفكير الشباب السوري، وهو ما أثر بالضرورة على اتجاهاتهم وتصوراتهم للواقع الحالي والمستقبلي لسوريا. لذلك وجدوا في الأحزاب الجديدة معارضة للنظام في الشكل، ولكن في الممارسة السياسية تعد تماهيًا مع ممارسات النظام السوري وحزب البعث، لذلك وجد الشباب نفسه بعيدًا عنها”.
أما الباحث السياسي حسن النيفي فيرى، في حديث إلى عنب بلدي، أن هناك “حالة جفاء” بين السياسة والمجتمع السوري، ناتجة عن أن العمل السياسي نفسه لم يكن متاحًا في ظل حكم الأسد، لدرجة التحريم الذي يؤدي بصاحبه إلى نتائج وخيمة.
وبالتالي، كان لهذا التحريم أو “التجريم” السياسي أثره البالغ ليس في انكفاء المواطن السوري عن ممارسة السياسة فحسب، بل في تعزيز التشوّهات الفكرية والنفسية لمفهوم السياسة في اللاوعي الجمعي أيضًا.
واستند النيفي برؤيته هذه إلى أن الإحجام والحذر الشديد من التعاطي السياسي، باعتباره مبعث خطر شديد التداعيات، ما زال قائمًا على الرغم من زوال أسبابه في كثير من الأحيان، معتبرًا أن شريحة واسعة من الشباب السوري ينظر بمزيج من الريبة والشك إلى الأحزاب السياسية السورية.
كيف يؤثر غياب الشباب على الحياة السياسية والمجتمع السوري
تعد الأحزاب السياسية أداة سياسية للوصول إلى السلطة استنادًا إلى منظومة قانونية، تشرع مسألة تداول السلطة، وتسمح بالتنافس السياسي للوصول إلى السلطة من خلال صناديق الاقتراع، لذلك لم يجد الشباب السوري الأحزاب المناسبة للمرحلة المقبلة، بحسب الدكتور في علم الاجتماع طلال مصطفى.
وأشار مصطفى إلى ضرورة توفر البيئة التشريعية الحاضنة لتأسيس الأحزاب السياسية التي تحدد الأطر والمعايير القانونية الناظمة لعمل الأحزاب السورية داخل الدولة السورية في المستقبل، بالإضافة الى التطلع لقيام أحزاب سياسية غير مؤدلجة، وبالتالي غير تابعة لخارج سوريا أيديولوجيًا، تعتمد البرامج العملية التي تخدم السوريين بالدرجة الأولى، إذ تكون معايير استمرارها هي القدرة على العطاء للسوريين، وفي الوقت نفسه تؤمن بحق غيرها في الوصول الى السلطة من أجل خدمة السوريين.
ورغم أن النظام السوري أطلق في عام 2011 المرسوم التشريعي رقم 100، الذي نظم عمل الأحزاب السياسية في سوريا، استمر في محاربة الأصوات المعارضة له في الداخل السوري.
واعتقلت قوات الأمن السورية في دمشق رئيسة حزب “الشباب للبناء والتغيير”، بروين إبراهيم، على خلفية مشاركتها بوقفة احتجاجية أمام مجلس الشعب، تزامنًا مع انعقاد أولى جلساته بعد الانتخابات.
وأكد الحزب، عبر صفحته في “فيس بوك”، في 10 من آب الحالي، اعتقال إبراهيم من أمام مجلس الشعب، برفقة ثلاثة أعضاء آخرين في الحزب، وهم باسل حوكان، وجعفر مشهدية، وعضو آخر من حلب، وذلك في أثناء تنفيذهم وقفة احتجاجية مع أحزاب أخرى، وفق ما نقله موقع “رووداو”.
كما أنشأ النظام السوري، في عام 2012، “محكمة الإرهاب” بموجب القانون رقم 22 للعام 2012، وهي أقرب ما تكون إلى “فرع أمن جديد” بحسب توصيف “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، ويحاكم من خلالها الأغلبية العظمى من الناشطين الحقوقيين والسياسيين والإعلاميين والمتظاهرين المعتقلين الذين يطلق النظام السوري تجاههم اتهامات متراكمة، مثل “الإرهاب”.
وما زال في مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري نحو 130 ألف معتقل سوري منذ آذار 2011 حتى آذار الماضي، بينهم 7913 سيدة (أنثى بالغة) و3561 طفلًا، أي ما يعادل 88.53% من إجمالي أعداد المعتقلين في كل المناطق السورية، وفقًا لقاعدة البيانات التي قامت “الشبكة السورية” ببنائها خلال تسع سنوات.
ويسهم النظام، عبر محاصرته واعتقاله المواطنين السوريين الراغبين بممارسة العمل السياسي داخل سوريا، بقتل أي فرص لحياة سياسية في البلاد.
وتلعب الأحزاب السياسية أدوارًا ثقافية واجتماعية، بالإضافة إلى دورها في تداول السلطة والحفاظ على القوانين والدستور وضمان انتقال السلطة بشكل سلس بينها.
ويشكّل غياب الحياة السياسية والتواصل بين الأحزاب السياسية والشباب مشكلة لمستقبل سوريا السياسي، فهو مؤشر على استمرار العقلية التقليدية في العمل السياسي، وفقًا للدكتور في علم الاجتماع طلال مصطفى.
وأضاف مصطفى أن هذا المؤشر يعني أن هناك آثارًا سلبية مستقبلية على قضايا التنمية السياسية في سوريا، التي ستصل إلى ما أطلق عليه “شيخوخة في العمل السياسي السوري”.