من تقرير ميليس إلى مبادئ ديمستورا
إبراهيم العلوش
خرج قرار المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري في لبنان بنتيجة مثيرة للاستغراب، فقد تعامت المحكمة عن الفاعلين الحقيقيين، واتهمت عنصرًا صغيرًا من “حزب الله” هو سليم عياش، لقد خرجت المحكمة بحكم كلّف اللبنانيين مليار دولار و15 سنة من الانتظار، بعد تحقيقات ميليس الاستعراضية.
قرأ السوريون تحقيقات ميليس حول التفجير الذي استهدف رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، عام 2005، وذُهل الجميع بمدى خبرة المحقق والفريق المساند له من خبراء، ومن مخابر شرعية، ووصلت الدقة في تشخيص قطعة من سِن وجدت لأحد المشتبه بهم في الموقع، إلى درجة قال التقرير فيها إن صاحب السن، حسب التحاليل، قد عاش أول 20 سنة من عمره في منطقة ريفية، وانتقل بعدها للعيش في منطقة مدينية مكتظة وملوثة!
واشتهر ميليس حينها بسرعة التحرك، وبفيض من قوائم المتهمين الذين كان يعتقد الجميع بضلوعهم من ضباط مخابرات كرستم غزالة، وغازي كنعان، وجامع جامع، بالإضافة إلى قوائم من المخابرات اللبنانية المتعاملة مع نظام الأسد، وكذلك قادة “حزب الله” الذين كان الجميع متيقنين بأنهم المنفذ المباشر للإرادة الإيرانية المتمثلة بسحق كل معارض لوجودها وللوجود السوري في لبنان.
وقد لاقت تلك التقارير إعجابًا شديدًا من قِبل المعارضين السوريين، وكانت استعراضات النظام تبدو خجولة أمام شعبية تقارير ميليس، ما اضطر النظام إلى تقديم مداخلات إعلامية مثل مقابلة هسام هسام التي أثارت سخرية الجميع بسبب سوء التلفيق، وتهافت الأدلة التي أشار إليها بتبرئة النظام السوري، وانتقل النظام إلى تصعيد إعلامي أعلى بإطلاق أغانٍ لعلي الديك عن ميليس وتقريره، ومثّلت مديرية المسارح والموسيقى مسرحية ضد ميليس، عدا عن التقارير الممجوجة التي امتلأت بها صحف وإذاعات وتلفزيونات النظام.
وعلى نفس الشاكلة، استعرض ديمستورا كفاءاته الدبلوماسية وعلاقاته الدولية، ووعد السوريين بأن مؤتمر “جنيف” للسلام سيكون خشبة الخلاص للمأساة السورية، وعقد مؤتمرات للمنظمات المدنية وللنساء، وأصر على تمثيل الجميع كما قال، وكان دقيقًا إلى درجة أن مندوبي المخابرات لبسوا ثياب الضحايا وانضموا إلى استعراضات ديمستورا التي تمخضت بشكل فعلي وعلني عن الاعتراف ببشار الأسد، وإمكانية إعادة ترشيحه وبحماية القوانين الدولية التي تحرسها روسيا وأمريكا، اللتان تنتقيان منها ما يوافق مصالحهما وخرائطهما المستقبلية.
في الحالة الأولى، انسحب النظام من لبنان بعد عملية اغتيال الحريري 2005، وتحت ضغط الشعب اللبناني الذي سئم من إرهاب المخابرات السورية ومن طرقها الوحشية في التعامل معه، ومع المسؤولين اللبنانيين، الذين يتم استدعاؤهم إلى عنجر، وإلى دمشق، كمتهمين، ويتم ابتزازهم بشكل فج ومهين للكرامة.
وفي نفس الوقت، قام النظام بتصفية كل أعوانه الذين تم التطرق إلى أسمائهم في تقارير المحقق ميليس، وصاروا ينتحرون مثل غازي كنعان، أو يموتون بشكل غامض مثل رستم غزالة، وجامع جامع، رغم كل الخدمات الكبيرة التي قدموها للنظام ولعائلة الأسد. حتى خرجت قائمة الاتهامات الأخيرة خالية من أي اسم من أسماء الضالعين من أعوان وضباط المخابرات السورية.
في الحالة الثانية، وبنفس المنهج وخلال سنوات انعقاد مؤتمر “جنيف” للسلام، تساقط كثير من ضباط النظام الضالعين في جرائم قتل وتعذيب السوريين، وفي جرائم التدمير للمدن السورية وتهجير أهلها، إذ سرعان ما تسمع بموت هذا الضابط الكبير بحادث سيارة على طريق الشام وهو قادم من حمص أو من اللاذقية أو ذاهب إليهما، أو موت ضابط آخر بالجلطة، او باغتيال غامض برع النظام بتنفيذه واتهام المعارضة السورية به، فضباط مثل عصام زهر الدين، وآصف شوكت، و ضباط مذبحة الكيماوي في الغوطة، وضباط مجزرة حي القصور في دير الزور، وغيرهم العشرات ممن تم تثبيت أسمائهم من قبل الجهات المعارضة، ومن قبل الجهات الدولية كضالعين في جرائم ضد الإنسانية.
ولعل إقالة اللواء جميل حسن، رئيس المخابرات الجوية، عام 2019، الذي حقق أرقامًا قياسية بالقتل تحت التعذيب، بالإضافة إلى رعايته تصنيع البراميل المتفجرة، هي خطوة البداية للوصول إلى المصير المحتوم لكل أعوان النظام الضالعين بجرائم كبيرة، وينتظر السوريون (المؤيدون والمعارضون) مسرحية تصفيته شبه المؤكدة سواء بفيروس “كورنا المستجد” (كوفيد- 19)، أو بالانتحار بعدة رصاصات مثل غازي كنعان أو محمود الزعبي، أو بتسليمه إلى الجهات الدولية كمتهم وحيد مقابل تبرئة ألوف الضالعين بجرائم القتل والتدمير ضد السوريين. وكان جميل حسن صرح أكثر من مرة بأنه مستعد لقتل مليون سوري والذهاب بعدها إلى المحكمة الدولية لقضاء تقاعده هناك في أحد فنادق هولندا، أو في أحد سجونها الفاخرة، فداء للسيد الرئيس ودفاعًا عن منظومة القمع التي ترأّسها.
خرج النظام السوري بريئًا من تهمة قتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وبنص قانوني صادر عن المحكمة الدولية، في 18 من آب الحالي، فهل سيخرج هذا النظام بريئًا من دم السوريين مقابل تقديم متهم واحد أو عدة متهمين من ضباطه، بشرط مشاركة بشار الأسد في صياغة الدستور السوري الجديد والاعتراف ببراءة بشار الأسد ومنظومته القمعية، وإعادة ترشيحه حتى يحين تسليم سوريا لمنظومة القمع القادمة، التي سيديرها أحد أولاد الأسد، في مسعى لتثبيت سوريا كمملكة أسدية يخضع الناس فيها لمشيئة هذا النظام بعقد إذعان تدعمه القوانين الدولية التي تدير مؤتمر “جنيف”.
خلال الأيام المقبلة قد يُعقد مؤتمر “جنيف” للسلام في سوريا، فهل سيكون هذا المؤتمر مجرد استكمال لرؤية ديمستورا، ومجرد أداة دولية لإعادة تأهيل نظام الأسد بعد كل الجرائم التي ارتكبها؟
بكل أسف، هذا ما يشعر به معظم السوريين بعد قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، الذي كان مخيبًا للآمال!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :