سيرين عبد النور – دير الزور
لا ملاذ لمعظم أطفال دير الزور من حر الصيف سوى أحضان الفرات، حامل الخير والخصب للمدينة سابًقا، ومهدد أبنائها حاليًا إثر ما أصابه من تلوث، وهو ما يعتبره محمد، عامل في مديرية الصحة في المدينة “نكبة حقيقية” كونه يهدد حياة سكان المنطقة.
يقول الشاب محمد، من أهالي المدينة، إن تزايد كميات القمامة وسوء وضع الصرف الصحي وغياب النظافة عن الطعام والشراب، كلها عوامل تترك المجال واسعًا لانتشار الجراثيم والفيروسات، ويشكل بيئة ملائمة تترعرع في كنفها الحشرات الضارة.
طفولة عليلة
جدري الماء ترك أحمد ذا التسع سنوات بندبات تملأ وجهه وقلبه، إذ يقول الطفل متحسرًا “الأطفال لا يلعبون معي وأغلبهم يخاف مني… أتمنى أن أموت وأتخلص من هذا الوجه القبيح”، ومن ثم يتساءل بنبرة لا تقل أسىً عن سابقتها “شلون بدي ألعب وأدرس؟”.
كذلك لم يبلغ رامي بعد عامه العاشر لكن ضغوط الحياة دفعت به للعمل في “حراقة نفط” لمساعدة أسرته النازحة إلى الريف الشرقي لدير الزور، وتحديدًا قرية البصيرة، حيث تتراكم القمامة على جانبي الطريق وتظهر آثار التلوث النفطي جلية في القرية والمساحات الواسعة المحيطة بها.
عملُ رامي في “الحراقة” تسبب له بأمراض صدرية ألزمته الفراش ستة أشهر، فإجراءات الأمان والسلامة في عمله مهملة تمامًا، بحسب أحمد، وهو عامل سابق في مجال النفط، ويصف تدابير السلامة بأنها “تحت الصفر”.
ويوضح أنها لا تضر فقط بالعاملين في الحراقات ولكن أيضًا بالأهالي وبالتربة المحيطة والهواء بسبب “انتشار الدخان المتصاعد المنبعث من الحراقات ليلفح آلاف الأهالي… سحابة سوداء باتت تعلو عشرات القرى المجاورة لمواقع التكرير، فضلًا عن أمراض غريبة وتشوهات بين حديثي الولادة”.
طبابة العصور الوسطى
بدا عامل الكادر الطبي رامز محتارًا في اختيار نقطة بداية لحديثه إلى عنب بلدي عن الأمراض السارية في دير الزور بين مزيج من الأوبئة والأمراض المعدية وأخرى جديدة تدخل على المنطقة.
“الأمراض الجلدية كالجدري والجرب والليشمانيا هي الأكثر انتشارًا لسهولة انتقالها لكن الخوف الأكبر هو تفشي أمراض فيروسية أخرى مثل شلل الأطفال أو أمراض أكثر خطورة وفتكًا”.
ولا يستبعد الشاب انتشار أوبئة كالطاعون والكوليرا إذ يرى أن البيئة المحيطة تتيح ذلك، موضحًا تأزم الواقع الصحي بجدالٍ جمعه مع رجل يرى القمل مفيدًا “لمنع الجلطات” والدم الذي تتغذى عليه الحشرات من باب “الصدقة” والجرب “يعلم الصبر، ويصل بالإنسان إلى الجنة”، ولم تفلح سنوات دراسته الطبية في إقناع ذاك الرجل بخلاف ذلك.
أما وفاة الطفل محمد الحميد قبل بضعة أيام إثر عضة كلب “مسعور”، فكانت بمثابة “صفارة إنذار” للتوعية بداء “الكَلَب” الآخذ بالانتشار في المدينة، في وقت غابت فيه وسائل العلاج ووثقت أكثر من 20 إصابة تستدعي علاجًا فوريًا، كما سجلت حالتا وفاة قبل الحميد.
ممارسات التنظيم
“لا نعلم ما نفعله في ظل غياب شبه كامل للكادر الطبي، ونقص حاد في المواد والأدوية”، يقول سعيد، وهو ناشط في المدينة، منوهًا إلى الجهود المحلية من قبل بعض الأهالي ومن تبقى من الكوادر الطبية للتوعية بخطورة المرض، وطرق الوقاية والعلاج المتاحة.
ويعتبر سعيد أن التنظيم هو المدان بما اعتبره “جريمة” وذلك أنه طرد المنظمات الصحية وصادر معظم المواد الطبية والأدوية، إضافة لترهيبه الكادر الطبي إلى حد التهديد المباشر والاعتقال، بحسب قوله، مضيفًا “جعل ذلك المنطقة مكشوفة أمام جميع الأمراض والأوبئة وعاجزة عن المقاومة وتقديم العلاج”.
ووصف الناشط دير الزور بـ “بقعة منسية أهملها العالم بعد أن رمى بكل نفاياته إليها، وانسحب مكتفيًا بمراقبتها من بعيد”، كما تسهم الأوضاع غير الصحية وغير الآمنة للتجمعات الكبيرة في ظل التنظيم بعودة أمراض سبق واختفت في المنطقة، وأولها الجرب والقمل الأكثر انتشارًا بين “جنود الخلافة”، إذ تفتقر تجمعاتهم سواء معسكراتهم التدريبية أو سجون التنظيم ومعتقلاته، إلى الحد الأدنى من الرعاية الصحية والنظافة الشخصية.
وقد تعدّى أثر ممارسات التنظيم إلى ما ينتج عن صلب جثث لمدة طويلة دون دفنها، ما يعزز انتشار الأوبئة وظهور أمراض مختلفة.
في أحمد ورامي وكل طفل آذته الحرب، يرى الباحث الاجتماعي طه العبيد “أطفالًا رحلوا عن طفولتهم مبكرين، تاركين لما بقي من ضمائرنا أسئلة تستحق الإجابة، ولو متأخرًا، وفاء لذكراهم، وحماية لمن بقي منهم وما بقي من مستقبلهم”.