محمد رشدي شربجي
من الممكن -باعتقادي- تفسير سلوك الغرب جزئيًا اتجاه المنطقة على اعتباره هربًا من مشكلات صنعها وضخمها بنفسه وألقاها في وجه العرب، ثم يأتي أخيرًا ليقدم لهم المشورة والنصح والخدمات المدفوعة.
لا يمكن لتحليلٍ موضوعيٍ يحاول فهم قضايا الشرق الأوسط كاملًا وكوارثه على مدى القرن الماضي (بما فيها كارثة النظام السوري) أن يمر دون ذكر إسرائيل، الكيان العنصري القائم على الإبادة الجماعية والعنصرية والكراهية، والذي بسببه، أو بسبب ادعاء مقاومته، شُرعن وجود بعض الأنظمة العربية الديكتاتورية، ودعم الغرب -حماية لإسرائيل- بعضها الآخر.
غني عن القول أن المشكلة اليهودية التي شكلت إسرائيل (وهي مشروع استعماري بحسب ما قال بلفور) نمت في سياق تاريخي أوروبي خالص، لا علاقة للعرب ولا المسلمين فيه من قريب أو من بعيد، ولكن لكي يتخلص الغرب من هذه المشكلة التي صنعها بنفسه وتفاقعت بعد محارق الهولوكوست، ألقاها على غيره وتركهم وحدهم يتعاملون معها.
ذات الأمر ينطبق تمامًا على المشكلة الإيرانية، فمنذ مطلع القرن الماضي تعامل الغرب مع إيران من منطق استعماري فقط، فأسست بريطانيا شركة النفط الأنجلو-فارسية عام 1908 (تغير اسمها في 1954 لتصبح بريتيش بيروليوم BP) لتكون من أولى شركات النفط العاملة في الشرق الأوسط.
وبعد الحرب العالمية الأولى سعت بريطانيا المنتصرة لتشكيل حكومة موالية لها في إيران تسمح لها بالشؤون الاقتصادية والعسكرية، وهو ما قوبل باحتجاجات عارمة من الشعب الإيراني ضد هذا التدخل، فدعمت بريطانيا وزير الدفاع رضا شاه بهلوي للقيام بانقلاب على الشاه أحمد مرزا القاجاري عام 1925، لينهي بذلك عهد الأسرة القاجارية التي حكمت إيران حوالي قرن ونصف، ويتوج نفسه ملكًا على إيران.
في الحرب العالمية الثانية خشيت القوات السوفييتة والبريطانية (الحلفاء) انضام الشاه الإيراني لألمانيا النازية، كما كانوا يرغبون بتأمين حقول النفط الإيرانية وتأمين الإمداد الدائم للقوات السوفييتة، فقاموا بغزو دائم لإيران عام 1941 انتهى بسيطرة السوفييت على الجزء الشمالي من إيران، والبريطانيين على الجزء الجنوبي منها وأجبر الشاه رضا بهلوي على التنحي لصالح ابنه الشاب محمد رضا بهلوي.
الامتيازات الهائلة الممنوحة للشركة البريطانية أدت لانتخاب محمد مصدق ديمقراطيًا رئيسًا لوزراء إيران عام 1951، وكان من أبرز الخطوات التي قام بها هي تأميم النفط الإيراني وإلغاء الامتياز الممنوح لشركة النفط البريطانية، والذي ينتهي في عام 1993، مصادرًا أصولها وممتلكاتها في إيران، وهو ما دفع الاستخبارات البريطانية والأمريكية من خلال عملية “أجاكس” لتدبير انقلاب عسكري أطاح بمصدق في عام 1953، لتكرّس قبضة الشاه بهلوي الحديدية من جديد وتبدأ فصول من المعاناة الإيرانية بسبب الغرب.
بعد انطلاق الثورة الإسلامية 1979 هرب الشاه من إيران، واستقبلته أمريكا بدعوى العلاج، وهو ما أثار مجموعة من الطلبة الإيرانيين لاقتحام السفارة الأمريكية في تشرين الثاني من العام نفسه، لتبدأ ما بات يعرف بأزمة الرهائن الأمريكين التي استمرت 444 يومًا، دعمت بعدها أمريكا العراق في الحرب الإيرانية العراقية والتي كلفت البلدين مئات آلاف القتلى ومئات المليارات كذلك.
وبدأت أمريكا بعدها سلسلة عقوبات اقتصادية ضد إيران لأسباب مختلفة أحدها البرنامج النووي الإيراني (البرنامج أطلقته أمريكا بالأساس في خمسينيات القرن الماضي، ثم دمره صدام كاملًا في الحرب الإيرانية العراقية، لتعيد إيران بناءه بخبرات محلية).
في خضم أزمة الرهائن 1980، رفض الرئيس الأمريكي جيمي كارتر الدعاوى التي تربط بين أزمة السفارة وبين موقف أمريكا الداعم لحكام إيران المستبدين على مدى عقود قائلًا “إن ذلك تاريخ عفى عليه الزمن وما يهم هو نجاة مواطنينا الأبرياء هناك”، أما الرئيس الأمريكي الحالي فقد أقر في مقابلته مع صحيفة نيويورك تايمز التي خص بها توماس فريدمان بعد ساعات من الإعلان عن الاتفاق النووي أن “أمريكا دعمت انقلابا عسكريًا فيما مضى، ثم دعمت صدام حسين في حربه ضد طهران”، ولكنه أشار في موضع آخر أن الاتفاق لا يعني أن إيران ستوقف نشاطاتها غير النووية في المنطقة.
ما يخيفنا (كعرب) ليس البرنامج النووي الإيراني فهذا يهم أمريكا وإسرائيل فقط، وإنما سلوك إيران العدواني التفتيتي في المنطقة العربية، وهو ما ساهم سلوك الغرب بتعزيزه لدى إيران، التي سعت بعد الثورة لتوسيع نفوذها الإقليمي في البلاد العربية لمواجهة التحديات الأمريكية مستغلة المشكلة ذاتها التي ألقتها أمريكا في وجوهنا: القضية الفلسطينية.