نبيل محمد
ما إن اقتربت شفاه الممثل السوري مهيار خضور من شفاه الممثلة السورية سلاف فواخرجي، في “البوستر” الترويجي لمسلسلهما “شارع شيكاغو”، حتى فُتحت الأبواب على مصراعيها، لكل من يمكن لهم الاستثمار في هذا “البوستر”، الذي من الممكن أن يمر في بلد من أضعف بلدان العالم بصناعة السينما والتلفزيون دون أن يلحظ وجوده أحد، لكن في بلد القحط الفني، وصحراء الحريات، ستجبرك المواقف على رؤية “البوستر” بعيون الجميع، ومن ثم ستجبرك بعد هذه الرؤية على التغاضي عن وجوده أصلًا، لأنه من الصعب اتخاذ موقف.
سيجد بالتأكيد صنّاع العمل التلفزيوني “البوستر” وما يدور حوله من لغط، أمرًا جيدًا من الناحية التجارية، ولعل منتقديه سلبًا وإيجابًا هم جزء من الجمهور الذي يطمح المنتجون لجذبه من خلال “البوستر” (القبلة)، وهو أمر طبيعي في عملية الترويج. كان من المفترض أن ينتهي الأثر هنا فقط، وأن لا يكون لـ”البوستر” أي فعل آخر، لكن كان لدعاة الحفاظ على “رسالة الدراما السورية، وسموّها” مكان لاستعراض إمكانياتهم اللغوية في رثاء الحال التي وصلت إليه هذه الدراما، وكأن هذه القبلة قد كانت الرصاصة الأخيرة في القيمة الأخلاقية للمنتج التلفزيوني السوري، وهو مقولة لا توجد زاوية محددة واحدة لرفضها، فقبل أن يكون الطرح سخيفًا، وأنها قبلة تتكرر ملايين المرات يوميًا في الواقع وعلى تلفزيونات لا سوريّة، ولا يمكن أن تؤشر إلى قيمة أو لا قيمة أي شيء سوى ذاتها، فهل انحطاط قيم جزء كبيرمن المنتج التلفزيوني السوري بحاجة إلى “بوستر” لإثباته. ليس علينا هنا سوى تذكر بعض المشاهد التي حاولت مواكبة الواقع السوري خلال السنوات الماضية، والتي أُنتجت داخل سوريا.
من جانب آخر، هناك من رأى في القبلة انطلاقة جديدة للدراما السورية نحو الحريات، ونحو رفع القيود عن الفن، وفتح الآفاق للصناعة المكبّلة، وهنا تحديدًا يبدو الأمر مضحكًا أكثر من سابقه، وكأن عقبات الإنتاج الدرامي أو الفني بشكل عام في سوريا، كانت مجرد بعض التقاليد الاجتماعية، ومصاعب إنتاج محتوى فيه إيحاء رومانسي أو جنسي. بينما فتحت شفاه فواخرجي وخضور الباب على مصراعيه للحرية.
استثمارات أخرى لم تخفَ عن ذهن كل من تربطهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالقبلة، فيمكن لفئة كبيرة من صحفيي القطاع العام في سوريا، بفرعيه الرسمي وشبه الرسمي، أن يجدوا مكانهم من القبلة، فيهاجموا التوجه الإسلامي والمجتمع التقليدي الذي أوصلنا إلى سوريا المدمرة، متسلحين بدفاعهم عن القبلة، ويمكن لسلاف فواخرجي نفسها في معرض الدفاع عن نفسها، أن تنشر صورة “أفيش” فيلم “أبي فوق الشجرة” الذي يجمع بوضعية مشابهة الراحلين عبد الحليم حافظ وناديا لطفي، حين كانت القبلة لغة لا تكتمل اللغة السينمائية دونها. ولم تنسَ فواخرجي بالتأكيد أن تصف الإساءات التي نالها “البوستر”، بأنها يمكن أن تقود أصحابها إلى السجن، وهو أيضًا ما ذُكر في تعقيبات صحفية، بأنه لو تم رفع قضايا فسيكون هناك من سيُقاد إلى السجن، علّ السجون لم تشهد بعد نزلاء بهذه التهمة. “شو تهمتك ولك؟ سبيت على بوستر فيو بوسة سيدي”.
لا شك أن اللغط الذي أثاره “البوستر” يثير تساؤلًا حقيقيًا، فقد تطرقت الدراما السوريا في تاريخها إلى موضوعات اجتماعية بعضها حساس، وتطورت في مرحلة من المراحل على صعيد الصورة والإنتاج، لكن حتى الآن لم تنتج أي قبلة؟ لماذا تأخرت القبلة إلى هذه الدرجة؟ أهي نفس الأسباب التي تمنع كل ما هو ممنوع في الدراما السورية من قضايا سياسية وتاريخية وما إلى ذلك.
أثار “البوستر” ما أثاره على صفحات صناعه والمدافعين عنهم، وعلى صفحات جمهور من قطاعات مختلفة، ليس غريبًا في بلاد لا “بوسترات” فيها سوى مرشحين لمجلس الشعب، مكروهين من قبل الجمهورعلانية، بل ومن قبل السلطة التي نجّدت لهم الكراسي، وطبعت الملصقات. إنه بلد بلا “بوسترات”، سوى “بوسترات” أسياد الحرب ومجرميها، فجأة ظهر فيه “بوستر” لقبلة، بغض النظر عن المستوى الذي سيكون فيه أصلًا إنتاج هذه القبلة مقنعًا. ومن الصعب على دراما سوريَّة منتجة داخل سوريا عام 2020 أن تقنع أحدًا ولو بقبلة، لكن لا بد أن “بوستر” كهذا سيطفو على سطح المستنقع.