عنب بلدي – ديانا رحيمة
خرج وعاد جثة هامدة مشوهة، قصة اعتاد أن يسمعها العديد من أهالي إدلب، ممن فقدوا أبًا أو أخًا أو أختًا.
“بعد نزوحنا من سهل الغاب مع موجة النزوح الجماعي فقدتُ أخي (ف. ع)، وعلمت بوجوده في أحد المقرات الأمنية، وبعد فترة أطلق الفصيل سراحه لمعرفته بعدم اتزانه عقليًا”، قال محمد، وهو مواطن من بلدة عابدين في ريف إدلب الجنوبي اعتاد التنقل في أكثر من منطقة بحثًا عن أخيه.
فقد محمد أخاه (41 عامًا) مجددًا بين بليون وكفرحايا وكفرزيبا وأورم الجوز والرامي، وكان خلال بحثه يعرف أن شقيقه تنقل بين هذه المناطق حيث قُبض عليه أكثر من مرة من جهات مختلفة، وبعد فترة تواصل فصيل مع محمد في أورم الجوز وأخبره بإخلاء سبيل أخيه، ليأتي ويتسلمه من منطقة أورم الجوز. وعندما كان في طريقه إلى أخيه، قُصفت المنطقة ونزح كل من فيها، ليفقده مجددًا.
وبعد خمسة أيام وجد محمد صورة أخيه في إحدى مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي، كجثة لشاب مجهول الهوية، تعرف إليها في مشفى الطب الشرعي بإدلب، وجاء في تقرير الطبيب الشرعي أن (ف. ع) قُتل تحت التعذيب، وسبب الوفاة قصور كلويّ حاد.
هذه ليست قصة فريدة في المحافظة، فبعض الجثث يجدها السكان ويجري التعرف إليها، لكن كثيرًا منها تبقى مجهولة الهوية، كجثة لطفلة في منتصف العقد الثاني من العمر، وُجدت بالقرب من جامع “الرحمن” في مدينة إدلب، بعد مضي 15 يومًا على قتلها خنقًا، ولم يجرِ التعرف إليها، وجثة شاب في العقد الثالث من العمر سبب وفاته ارتطام الرأس بجسم صلب، وغيرها من الحالات التي توثقها الطبابة الشرعية في مديرية صحة إدلب عبر صفحتها في “فيس بوك“.
الطبابة الشرعية: 75 جثة أسبوعيًا
عنب بلدي تواصلت مع مشفى الطبابة الشرعية في إدلب، لمعرفة عدد الحالات التي عُثر فيها على جثث لأناس قُتلوا في ظروف غامضة، وقال الدكتور أحمد العبد، “يصل عدد الجثث التي تصلنا أسبوعيًا إلى ما يقارب 75 جثة”.
وتتنوع أسباب الوفاة بين القتل بالرصاص والتعذيب حتى الموت أو بشظايا انفجار أو سقوط أو حوادث سير، بحسب الدكتور أحمد العبد.
ولكن أكبر نسبة تصل إلى المشفى هي إثر التفجيرات أو الرمي بالرصاص بنسبة 60%، وحوادث السير بنسبة 15%، أما نسبة حالات الموت بأسباب طبيعية فهي 5%، بينما توجد حالات لفقد الأعضاء كحالات بتر رأس أو أطراف.
ويجري التعرف إلى الجثث غالبًا من قبل الأهالي عن طريق رؤية الجثة على وسائل التواصل الاجتماعي والصفحات التي تتناقل هذه الأخبار، بحسب الدكتور أحمد العبد.
الموثّق في ديوان الطبابة الشرعية بإدلب علي الطقش، أوضح أن أيار الماضي حصد 287 جثة تعرف ذووها إليها، و28 بقيت مجهولة، بينما كانت حصيلة حزيران الماضي 113 جثة معلومة، و67 جثة مجهولة الهوية.
تبقى الجثة في البراد من 15 يومًا إلى شهر، وبعد مضي الفترة الزمنية المحددة، تؤخذ عينات من الجثة وتوثّق، وتصوّر العلامات المميزة لدى الشخص المتوفى، ويحدَّد رقم للجثة، وتؤخذ عينات من أجل فحص الـ”DNA” مستقبلًا، وتدفن في مكان معلوم لتسهيل الوصول إليها في حال التطابق وتمييز الجثة.
تعاين الطبابة الشرعية في إدلب الجثة لتحديد زمن وسبب الوفاة، لكن يوجد نقص حاد بالأجهزة اللازمة لإتمام عملها على أكمل وجه، فهي تحتاج إلى أجهزة ومعدات طبية كالجهاز القوسي لتسهيل عملية الاستئصال عند الحاجة، كما لا يوجد مختبر لفحص الـ”DNA” لتمييز هوية الجثث فيما بعد، في حال لم يتعرف أحد إلى الجثة أو أنها تحولت إلى أشلاء.
يسجّلون كمفقودين
يسجّل سكان إدلب حالات فقدان ذويهم بشكل دوري، ويجد الأهالي بعض المسجَّلين لكن بعد تحولهم إلى جثث.
تواصلت عنب بلدي مع مدير مكتب توثيق المفقودين في إدلب، حذيفة الحمود (أبو إسكندر)، الذي كشف عن تقرير يوثق الحالات منذ بداية العام الحالي، وأوضح أن عدد المفقودين الكلي المسجَّلين 447 مفقودًا، بينهم 335 رجلًا، و38 امرأة، و54 طفلًا، والذين عادوا منهم منذ بداية العام الحالي إلى لحظة تحرير هذا التقرير 199 مفقودًا، منهم 156 رجلًا، و21 امرأة، و22 طفلًا.
وأما الجثث المجهولة الهوية التي وصلت إلى مكتب التوثيق عبر الطبابة الشرعية، فعددها الكلي 24 جثة، تعود لـ16 رجلًا، وأربع نساء، وأربعة أطفال.
ويوجد في الشمال الغربي من سوريا ما يقارب 4.1 مليون شخص، و2.7 مليون نازحون داخليًا، بحسب أرقام مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).
أين تتركز نقاط الاختفاء
تركزت 50% من حالات فقدان الأشخاص في مخيمات الشمال السوري (مخيمات أطمة، دير حسان، قاح، حربنوش، سرمدا)، بحسب مكتب توثيق المفقودين.
أما في إدلب وريفها الشمالي بشكل عام (إدلب المدينة، مدينة سرمدا، مدينة الدانا، حارم، سلقين، دركوش، كفرتخاريم) فكانت النسبة تقارب 35%، وتليها مناطق عفرين واعزاز وجنديرس بنسبة 15%، وأغلب نسب الفقد فيها في أثناء التجول بين المناطق المذكورة.
ولم تسجل أي حالة فقدان بسبب فدية مالية، أو حالات انتقام، أو أسباب سياسية، أو تجارة أعضاء، بحسب المكتب، رغم حالات انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي لأشخاص طولب ذووهم بفديات مالية للإفراج عنهم.
وتواصلت عنب بلدي مع المكتب الإعلامي لحكومة “الإنقاذ” للتقصي عن الوضع الأمني فيما يخص قضية الجثث، خاصة مع اتهامات توجه لفصائل عسكرية، من بينها “تحرير الشام”، بالمسؤولية عن بعض حالات الاختطاف والقتل، ولكنه اعتذر عن عدم الإجابة.
ويزداد الوضع سوءًا في إدلب، مع غياب الرقابة عن عمليات القتل التي تسجل معظم الأحيان من “جهات مجهولة”، بينما يرفض كثير من أهالي الضحايا التحدث خشية الضرر الذي قد يصيبهم بسبب الانفلات الأمني.