حمص – طريف العتيق
بدأنا في العدد الماضي حديثنا حول ما هي العقليّة العلميّة، وكيف يكون تفكيرُنا منطقيًا سليمًا، وبدأنا بالقول بأن التنبه إلى المغالطات المنطقيّة في الحوارات وتجنبَها واحدةٌ من أهم الخطوات في سبيل ذلك. وعرضنا لثلاثٍ من المغالطات المنطقية وهي: الشخصنة (مناقشة الشخص لا الفكرة)، الرجل القش (مناقشة فكرة مصطنعة غير الحقيقية)، الشيوع أو القدم (إثبات صحة فكرة نظرًا لشيوعها أو قدمها)، ولنتابع معًا:
• المغالطة الرابعة:
التوليد
والذي يعني تقييم الفكرة تبعًا إلى مصدر قائلها. لكن في الحقيقة فالمصادر السيئة قد تحتوي على حق وصواب دومًا، لذا لا يجوز رفض فكرة لأننا نختلف مع صاحبها بالتوجه والانتماء، وفي الحديث: «صدق وهو كذوب»، والمقصود به إبليس. فعلينا أن نفكر بالكلام ونقيمه بغض النظر عن قائله، وبالمثل من يقبل فكرة لأن فلان المعروف قالها، وهذه حقيقة تجربة كثيرًا ما أحب القيام بها، عندما آخذُ قولًا غريبًا شاذًا لأحد المفكرين، وأعرضه، يبدأ الناس بالهجوم على هذا الكلام وقائله (أنا)، وما إن أقول لهم أن فلانًا هو القائل، حتى تجدهم سكتوا مرّة واحدة، وشعروا بالتورط، لكن الصحيح أن المناقشة تصح في كل الأحوال، مهما كان القائل.
إن الثقة أو عدم الثقة في المصدر ليس ضامنًا للحقيقة، وهذا يذكرنا بالشيخ البوطي في كلمة له متلفزة: «من أنتم؟ هلّا أخرجتم لنا هوياتكم فنتبينكم؟؟!!» فبرأيه، مطالب الإصلاح والحريّة وقتها لا قيمة ذاتية لها، إلا إذا كانت تصدر من أشخاص معروفين وموثوقين بحسبه!.
• المغالطة الخامسة:
الاحتكام إلى التقاليد
تجد هذه المغالطة في جُملٍ وعبارات مثل:
{ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} ، «ليس الخلف أفضل من السلف» ، «من أنت حتى تعرف أكثر من فلان» …
هذه المقولات هي شعارات لأي جماعة أو مؤسسة استطاعت أن تحكم المجتمع وأفكاره لفترة طويلة من الزمن، فإذا جاء من يتحدث عن التغيير، برزت له بهذه المقولات، التي تفترض أن الأفكار التي قال بها حكماء وعلماء عصر ما سابق، وتسلموها هم سلفًا عن سلف، هي أفضل من الأفكار الحديثة المبتدعة.
كمن يناقش مثلًا مسألة «الخلافة الإسلامية»، باعتبارها شكل الحكم الذي كان سائدًا في عصر الصحابة، ومن أنت لتعرف، خيرًا من أبي بكر وعمر، ما يصلح لهذه الأمة.
غالبًا ما يُعتبر قِدمُ الفكرة وتطبيقها من قبل السلف دليلًا على صحتها، دون مناقشة إمكانية تغير الظروف والبيئة والثقافة والمجتمع، وهي العناصر التي تفرز شكل نظام الحكم.
وهذا يذكرنا بكلمة القذافي الشهيرة: من أنتم؟؟!! فهو زعيم ليبيا منذ أربعين سنة… من أنتم؟؟ مجرد شباب حديثين ليس لكم في التاريخ سيرة…
• المغالطة السادسة:
الاحتكام إلى ثقة من الثقات في غير تخصصه
فيكون الحديث في السياسة مثلًا فيزجُّ أحد الأطراف اسمًا لشخصٍ معروف مرموق في مجال الاقتصاد، محاولًا التأثير على الناس لا بقوة الفكرة، وإنما باسم الشخص، الذي يعتبر موضوع الكلام خارجًا عن تخصصه الذي جعله معروفًا ومرموقًا.
وهذا الأمر كثيرًا ما نراه على صفحات التواصل الاجتماعي، فيكون الحديث في السياسة فيأتي أحدهم باسم فلان الروائي على اعتباره مرجعية معروفة، لكن هذا الشخص هو مرجعيّة في الأدب، أما في السياسة فرأيه لا يأخذ كمرجعيّة مطلقة.
كثيرًا ما نأخذ لأنفسنا مرجعيةً دينية أو فكرية أو أدبية، ثم نعممها ونجعلها مرجعيتنا المطلقة في الحياة، في الأدب والدين والسياسة والاقتصاد وغيرها، وهذا خطأ منطقي فادح.
فلكلّ مجالٍ رجالُه، ولا مانع من أن نعرض آراء أحد الشخصيات المعروفة حول موضوع خارج مجال تخصصه، لكن على أن نركز على الرأي لا على مرجعية الشخص الخارجة عن موضوع الحديث.