حنين النقري – دوما
تكرر المشهد على أنظارنا على مرّ سني عمرنا، عهدناه مذ كنّا صغارًا على شاشات التلفزة، وربّما أتيح للمحظوظين منّا خوض تلك التجربة القدسية بنفسه…
لكن هل سبق أن رأيناه بعيون جديدة كما يمكن لنا أن نراه اليوم؟
هل يمنحنا التفكّر والتأمل في الركن الخامس من أركان الإسلام «الحج»، في ظل الثورة، أي بُعد آخر جديد؟
تلك الجموع الغفيرة الهادرة، المتجهة بإصرار وعزيمة إلى عرفات، ثقافات مختلفة من كل بقاع الأرض، تجتمع معًا في مكان واحد، صعيد واحد، لهدف واحد، تنسى اختلافاتها. رغم ازدحام المكان تستشعر في نفسك رحابة وسعة وحبًّا لكل من حولك، يكفي أن الهدف ذاته يجمعك به، لا يهمك اسمه أو منشؤه، لا يهمّ عرقه أو لونه أو ثقافته. هدفه السامي، مسيرته بجوارك جنبًا إلى جنب، هي ما سيشعرك بأنه أخٌ حقيقي لك، لعلّ تلك المشاعر القدسية تذكّرك بمشاعر الأخوة القدسية التي جمعتك يومًا مصادفة مع صديق مظاهرة أو معتقل؟!
ألا يكون الحجّ، هذا المشعر المقدّس، دورة تدريبية للمسلمين في أنحاء العالم، حول التعايش مع الاختلافات الثقافية في مكان واحد، طالما جمعنا هدف واحد؟
ألا يشكّل الحج، برأيك، أرقى نموذج لاجتماع ملايين مختلفة لا يربط بينها سوى رابط الهدف في مكان واحد ضيّق، مع أقل عدد من الخلافات، رغم لانهائية الاختلافات؟
هذا التعامل الرائع مع الاختلاف، هذا النموذج الحضاري الباهر، المستمر منذ مئات السنين، ألا يحتاج منّا لنظرة جديدة، عسى أن نخرج منه بدروس بناء لحضارة تضمّ الاختلافات بحبّ وسَعة، لتجعل منها عوامل بناء لا عوامل هدم؟
قد تكون من عرقٍ آخر، لا تتكلم لغتي ولا أفهم لغتك، عاداتك مختلفة تمامًا عن عاداتي، لكن وحدة هدفنا ستجعلنا نمضي معًا بحب، لغة تواصلنا ستكون ابتسامة وتربيتة على الكتف، وشعارًا واحدًا جمعنا رغم اختلافنا، لنصل إلى بر الأمان معًا، سأكون حريصًا على وصولك معي، حرصي على وصولي لهدفنا، لأنه مشترك، لأن سعينا له معًا مهمّ بأهمية الهدف ذاته!
هذا اللباس الواحد، الذي يصبغ الجميع بلون الطهر الأبيض، ألا يشعرك معي بمجتمع قائم على المساواة بين أبنائه، مجتمع لا يقوم على الطبقية، لا وساطة، لا وجاهة، لا مال ولا منصب ولا عرق مميز هنا، الكل سواسية كأسنان المشط، لا يمايز بينهم ولا يفاضل إلا العمل، أليس هذا ما نريده في دولة مدنية قائمة على الكفاءات، وتُقيم لأبنائها الاحترام بذات القدر؟
الحَرّ، بُعد الشقّة والمسافة، التعب والإرهاق، اللباس البسيط الذي لن يريحك ربّما، إهمالك لحاجات جسدك، تركك للطيب والعطر الذي تحبّ، جميع المظاهر التي اعتدت عليها، لماذا؟ لأن ثمّة ما هو أهم، ثمّة هدف نُصبَ عينيك دائمًا، كما جبل عرفات يلوح للحجيج جميعهم، يجعلك تركّز على الوصول إليه، يجعله أولويتك الأولى التي سيحلو كل تعب دونها، وستطيب كل مشقّة في سبيلها…
لعلّها دورة لنا أننا سنمرّ بلحظات شدّة في حياتنا، سنمرّ بأوقات لن يتاح لنا فيها إلًا أقلّ القليل، لعلّ هذا التقشّف الآني يشعرك بتجربة من يعيشه يوميّا من دون حجّ – من دون ثورة أو حرب- فتجود عليه غدًا.. في يوم النحر – أو يوم النصر…لا فرق!-
رمي الجمرات، ألا يشعرك بالنشوة لمصير محتوم سيأتي، ولا بدّ، لكل ظالم؟ بعد جهد وتعب وتقشّف وألم، سيأتي يوم القصاص من الظالم، وسيشارك فيه الجميع بعدل، كما يشارك الحجيج برمي جمارهم على عدوهم في الجمرات الثلاث..
قد تستشعر معي كل ذلك، وقد لا تشاركني ما ذكرته في هذا المقال، لكنّه ما فاض به قلمي إذ تأملت مشهد الحجيج بوحدة صفّهم، وحدة هتافهم. هذا ما شعرت أن الحج يحاول أن يقوله لنا!