أسامة آغي
لم يُغفل علم النفس دراسة التوحش المبالغ فيه، الذي يمارسه فرد، أو مجموعة، أو جيش، ضد الناس العزّل المسالمين، فهذا التوحش ينبني على استخدام قوة مفرطة، لا يحتملها من يقف بوجهها، أو من يتلقى ضرباتها، إذا لم يكن يملك قوة ردع مماثلة توقظ الخوف لدى المتوحش.
هذه السياسة المسماة “الأرض المحروقة”، لا تزال روسيا تستخدمها في سوريا، كما استخدمتها في مواجهات متعددة مع معارضيها من الشيشان، واستخدامها لهذه السياسة، هدفه الرئيس المعلن هو السيطرة على “العدو” بسرعة شديدة، بغية الحصول على تنازلات كبرى تؤدي إلى هزيمة هذا “العدو”، أما هدفها غير المعلن، فهو إشباع غريزة الخوف عبر ممارسة القتل بقسوة.
سياسة “الأرض المحروقة”، التي استخدمتها روسيا في تدمير حلب، وبعدها الغوطة الشرقية، وفي تدمير مناطق شمال حماة وجنوب إدلب، كانت تريد منها فرض صيغة حل سياسي، أطلقت عليه اسم مسار “أستانة”، هذا الحل لم يكن الروس على يقين عميق بقدرتهم على تنفيذه، حتى عبر مبدأ مناطق “خفض التصعيد والتوتر”.
الروس يهجسون دائمًا بالدور الأمريكي المتربص بهم، الذي يمتاز بقدرة كبيرة على الصبر والتوريط، عبر إرسال إشارات سياسية غير واضحة بالقدر المطلوب روسيًا، وهذا الهجس يدفعهم إلى توتر إضافي تزيد معه شحنة عدوانيتهم، وبالتالي زيادة إفراطهم في استخدام القوة.
“الأرض المحروقة”، هي سياسة تكشف عن خوف عميق من الفشل، وفي ذات الوقت، تكشف عن استعجال الحصول على نتائج مطلوبة نتيجة هذه السياسة، والروس الذين انتهجوا ولا يزالون هذه الطريقة في الحرب، يرافقهم خوفهم المستتر من الهزيمة أو الفشل.
ولعل وصول هذه السياسة إلى طريق مسدودة في إدلب، إنما كان بسبب قدرة “الجيش الوطني السوري” التابع لـ”الحكومة المؤقتة” على الصمود بفضل الدعم التركي له، وهنا يمكن ملاحظة أن وجود معادل قوة تركي، ألغى فعالية هذه السياسة، وفرض على الروس القبول بحلول وسط، حيث لن تخدم هذه الحلول الاستراتيجية النهائية للسياسة الروسية في سوريا.
الروس الذين قبلوا بالتورط في الصراع السوري، لم يدرسوا بصورة كافية أهمية عناصر الصراع الأخرى، ودور كل عنصر من هذه العناصر في التأثير على مسار تدخلهم ونتائج هذا التدخل، وهو أمر يربك استراتيجيتهم في هذا الصراع، ولذلك بدت هذه الاستراتيجية في حالة ارتباك، نتيجة تأثير عدد من العناصر، التي تغيّرت مواقع تأثيرها بتغير مواقعها هي في هذا الصراع.
فالدور الأمريكي، الذي يمنع أي اقتراب من مناطق إنتاج النفط (شرق الفرات)، صار دورًا مثبطًا للاستراتيجية الروسية، أي أنه منع الروس من استخدام النفط في تغذيتهم لإعادة إنتاج النظام، ومنعهم من تقديم المساعدة المطلوبة اللازمة للنظام السوري، لبسط سيطرته على شمال شرقي سوريا، وهذا أحدث خللًا عميقًا باستراتيجية تدخلهم في سوريا.
الانتصارات العسكرية التي أنجزها الروس لمصلحة قوات النظام والميليشيات الإيرانية، باتت هي الأخرى لا تخدم الهدف الرئيس من التدخل الروسي، فالجهد العسكري الروسي كان يذهب في جزء منه لمصلحة هذه الميليشيات، وبالتالي يعزّز من دورها في محاولة استثمار الصراع، لمصلحة المشروع الإيراني في المنطقة.
الانتصارات العسكرية الروسية في مناطق عديدة من سوريا، ما كان لها أن تستمر في إدلب، حيث يتجمع في هذه المحافظة قرابة أربعة ملايين سوري بين نازح أو من سكان المحافظة، فالأتراك لن يسمحوا للروس أو للنظام بتفريغ إدلب، عبر استخدام سياسة “الأرض المحروقة”، وهو أمر جرّبه الروس في معاركهم الأخيرة في إدلب، حيث اصطادت طائرات “الدرون” التركية الحديثة قوة هجوم النظام وحلفه، وحولته إلى نصف هزيمة.
وفق هذه الرؤية، لم يضع الروس سيناريو آخر يتعلق بتغيير سياستهم حيال الصراع في سوريا، فهم حتى اللحظة لا يزالون شركاء في قتل المدنيين السوريين بوحشية، ومحاولتهم الحفاظ على مصالحهم الاستراتيجية لا يتفق مع انتهاج سياسة الوجه الواحد، والانحياز ببشاعة لنظام سياسي متهم بإبادة مئات آلاف السوريين، وتدمير مدن وقرى، وتهجير الملايين من منازلهم وممتلكاتهم.
إن الروس الذين تتهمهم جهات تحقيق دولية بارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، لم يضعوا في حسبانهم أن العلاقات بين الدول هي علاقات بين شعوب، وليست علاقات بين حكام فحسب، وهذا يتطلب منهم وقف جرائمهم ضد المدنيين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام والميليشيات الشيعية القادمة من خارج الحدود.
الروس لا يزالون حتى اللحظة يفتقدون رؤية ملموسة ومقبولة للحل السياسي في سوريا، وهم لم يضعوا سيناريو ممكنًا ومقبولًا لهذا الحل، وبالتالي فهم لا يزالون أسرى أوهام قوتهم، التي لن تستطيع إنجاز استراتيجيتهم الخاصة، وهو أمر يديم ذهنية استخدام القوة المفرطة في معالجة استعصاءات الحل أو تنفيذ الاتفاقات.
الروس معنيون بإعادة قراءة مشهد الصراع السوري، وآفاق هذا الصراع، وإمكانية طرح بدائل تتوافق مع التوازنات الموجودة على الأرض للقوى الفاعلة فيه.
إن توهّم الروس بقدرتهم على الحفاظ على ما يسمونه إنجازات في سوريا، هو وهم مرتبط بالضرورة بذهنية سياسة الخوف، التي تحكم سلوكهم العسكري والسياسي، وإن محاولتهم الالتفاف على قانون “قيصر”، ستكون محاولة تشبه الفوز باصطياد السمك في صحراء لا ماء فيها.
لم يدرك الروس أن الأتراك لن يلجؤوا لاستخدام القوة المفرطة ضد التنظيمات المصنفة “متشددة”، لأن نتائج استخدام هذه القوة ستنعكس سلبًا على الأمن القومي التركي، وهذا أمر تتجنبه تركيا، وتستبدل سياسة استخدام القوة الناعمة به.
إن الغارات التي تعرضت لها مدينة الباب شرقي حلب، تكشف أن الروس لا يزالون يستخدمون سياسة الرعب، المبنية على مبدأ استخدام القوة المفرطة، وهذه سياسة تزيد في خلق الكراهية أكثر فأكثر تجاه روسيا ومستقبل العلاقات بين البلدين مستقبلًا.
الروس معنيون بالضغط على النظام، وإجباره على الذهاب إلى تنفيذ القرار الدولي 2254، وما يفعلونه حتى الآن، يشير إلى يقينهم العميق بأنهم قادرون على إعادة إنتاج نظام الاستبداد بطرق ملتوية.
الروس أمام مفترق طرق في سوريا، فإما الانسجام مع المجتمع الدولي، الذي يصرّ على تنفيذ محتوى القرار الدولي 2254، وإما الانزلاق أكثر فأكثر في وحل الصراع السوري وفي وحشيتهم المفرطة.