نبيل محمد
ينتظر سائق التاكسي الذي يلعب دوره الممثل السوري “يزن السيد” فريسته خلف مقوده، بهيئة نمطية مستهلكة للسائق المتحرش الفظ الوقح، ليأتي زبونه اللبناني الأنيق “غيد شماس” الذي يجلس بقربه، مرتبكًا من نظرات السائق الخبيثة، ولعابه الذي يسيل، ليكون المشهد الذي يتحرش به السائق السوري “المأنشح” هو ما يدعوك كمستهلك لانتقاء التاكسي الأفضل وفق هذا الإعلان، فالتاكسي الجيد هو الذي لا متحرش يقوده، ولا شخصيات غير لائقة، بالمعنى الأعم وفق تقييمات ونقد للإعلان.. “لا سوريين يقودونه”. الإعلان لاقى اعتراضات على نطاق ضيق لم يتناول عنصريته التي تحولت إلى جزء من خطاب إعلامي معتاد في ميديا بلاد الأرز، بل إنه جزء لا يكاد يذكر في سياق الحديث عن تلك العنصرية، فهو بما هو عليه مجرد إعلان لا يقارن بمستويات أعلى من الخطاب العنصري، تأتي كرسائل موجهة خلال تقارير إعلامية أو حتى ضمن خطابات مسؤولين، بين من يرى أزمة الغذاء والطاقة في لبنان مصدرها سوريون، وآخر يرى وجه شارع “الحمرا” بات أسود بسبب السوريين.
لكن ربّما أغلبية من عقّبوا على الإعلان كانوا معترضين على قبول ممثل سوري المشاركة به، التعقيب الذي قد لا يخلو أيضًا في رمزيته من عنصرية ما، وكأن المشكلة هي قبول ممثل سوري لدور كهذا لا أكثر، فهل إن لعب ممثل لبناني دور سائق سوري سيكون وقع الإعلان أخف؟
اللافت أيضًا هو الطريقة السطحية التي يردُّ فيها الممثل على منتقديه، بعد اعترافه برداءة الإعلان الذي مثّل فيه، حيث وجد أن مشكلة الإعلان هو أنه “طويل”، ولا يتضمن حوارًا، وأن قراءة الناس له بهذا الشكل هي ما جعلته مسيئًا، ليقول أيضًا في معرض تعقيبه على الإعلان “لو افترضنا بدي اتحرش كنت بجيب بنت”، وكأنه يلغي عن الدور الذي قام به صفة المثلية، فلو كانت قصة الإعلان تضمنت تحرشًا كانت حضرت إلى جانبه ممثلة لا ممثل. ينقل هذا التصور بشكل واضح مدى ضحالة رؤية الممثل للقضية التي وُضع كطرف فيها بشكل عام.
بالتزامن مع الإعلان يأتي إعلان آخر، أكثر قوة، ومن المفترض أنه أكثر أهمية وتأثيرًا، وهو إعلان الإعلامي اللبناني طوني خلفية عن مادة إعلامية في قناته على منصات “السوشيال ميديا”، بطريقة وكأنه يعلن فيها عن منتج تجاري استهلاكي ذي ألوان براقة، أو عن كاميرا خفية تلتقط صورًا جريئة لفنانة شابة، فيقول الإعلان “للمرة الأولى الطفل السوري المغتصب ووالدته”. لعل وصف الحالة هنا بالعنصرية غير مناسب، هناك شكل مختلف للعرض هنا، يمتزج به الاستهلاك مع اللاإنسانية مع الزيف والصحافة الصفراء، الزيف فيما ورد هو أهم من كل الصفات الأخرى لأنه نافذ، نافذ بشخصية إعلامي كان ينال شهرة ومتابعة وثقة من قبل فئات عريضة في سوريا ولبنان بالدرجة الاولى، ونمطية صورته التي حاول من خلال برامج متعددة تعزيزها، الصورة التي تقدم ما يقوم به ضمن خانة الميديا الجادة ذات القضية الهادفة، والقادرة على الجذب من خلال شخصية الإعلامي القريب من الجمهور، وذي اللغة الجذابة.
كل هذه الأدوات ألا يمكن رؤيتها في خانة صحافة الجذب بـ”المانشيتات” العريضة الملونة مقابل فراغ أو شبه فراغ المحتوى؟ وصورة الصحافة الجدية التي تلبسها مواد خليفة، خاصة في الفترة الأخيرة.
كم ذلك بعيد عن الصحافة الصفراء؟ أليس سؤالًا يمكن طرحه أمام جمهور بات اليوم على أقل تقدير قادرًا على أن يكذّب كل الميديا التي تحيط به، والتي تريه ظرفه الحياتي العام بصورة غير واقعية؟ اليوم يبدو كل هذا الشكل من الميديا، الذي كان يملأ الشاشات اللبنانية، واضحًا أمام أعين الجمهور، فالصورة اليوم أوضح من الأمس، ولا يمكن لكل الصحافة المتواطئة مع الطبقة السياسية في لبنان، بأطرافها المتعددة أو بطرفها الأقوى، أن “تبلف” المواطن بأساليب عدة يكتشف جديدها كل يوم، فلم تعد لعبة الأمس قادرة على حشد الرأي العام من جديد في بلاد على شفا انهيار ربما لم يسبق له مثيل.