سيرين عبد النور – ديرالزور
منذ أن أصابتها شظايا قذيفة هاون في رأسها، تتلمس رغد ذات الأعوام الستة بكفيها الغضين طريقها حينًا، وتزحف حينًا آخر، وكثيرًا ما ترتطم بأثاث المنزل؛ وليس بوسع عائلتها المحاصرة في حي الجورة فعل الكثير، والدتها تتساءل باكية ماذا فعلت طفلتها لتستحق ذلك، ووالدها يبحث عن مهرب من الحصار آملًا بأن تقلّهم بعد ذلك الأمواج إلى وجهة قادرة على تقديم علاج لصغيرته التي فقدت بصرها.
تعلم والدة رغد أن ابنتها ليست الوحيدة التي سرقت الحرب ملامح الفرح منها، وتقول إن عشرات الأطفال في حيهم أصيبوا إثر اشتباكات نشبت فيه، أو صدمتهم سيارات الأمن المسرعة في الشوارع المكتظة، أو أصيبوا بقذائف الهاون أو برصاص طائش «في منطقة أدمنت التعبير بالرصاص عن اختلاجات صدور أبنائها»، بحسب تعبير والدة رغد، «فهنا يطلق الرصاص في الفرح والحزن والشجار وحتى على سبيل التسلية أحيانًا». ولكن هل في ذلك عزاء لقلب أم ملوّع على ابنتها؟
تبدي أم رغد قلقها على مستقبل ابنتها، أما والدها فهاجسه أن تلاحقهم «لعنة الحرب» ولا تفلح جهوده في معالجة ابنته، «تؤلمني رؤيتها وهي تصغي لأصوات الأطفال من حولها ولا تستطيع مشاركتهم اللعب… الخراب يحاصرنا من كل مكان ولا منفذ لنا سوى البحر، ولكن أخشى أن تلاحقنا لعنة الحرب إلى بلاد الغربة».
وفي ريف المدينة يتضاعف تعرض الأطفال لخطر المتفجرات؛ إذ يتشكى الأهالي من استهتار أغلب المقاتلين من شتى الفصائل بالتخلص من مخلفات ذخيرتهم، ما يضع أطفالهم أمام تهديد مستمر لإمكانية وصولهم إلى تلك المخلفات؛ وفضلًا عن القذائف متعددة المصادر التي لم تنفجر أو انفجرت جزئيًا، والألغام الأرضية، والقنابل العنقودية واسعة الانتشار، والعبوات الناسفة محلية الصنع ومتفاوتة الحجم، فإن عددًا ليس بقليل من أطفال ديرالزور على علم بطرق صناعة هذه العبوات وبالمواد اللازمة لتحضيرها بعد أن شاهدوا إعدادها.
ناشطو المدينة نوّهوا إلى أن سيطرة تنظيم الدولة على دير الزور لم يقض على صراعات «متنوعة ومفتوحة»، ما يحول دون إمكانية وضع حد للانتشار «العشوائي» للسلاح فيها. ويرى الباحث الاجتماعي طه العبيد «الصراعات القبلية أخطر الأسلحة الموجهة في المنطقة»، وأبرزها «الثارات» بين عشائر المنطقة الذين «يرتدون مظاهر خارجية متنوعة، إلا أنهم يحافظون على مضمونهم وطابعهم العشائري»، بحسب وصفه.
في حين يعزو الأهالي المشكلة إلى معسكرات التدريب التي تستهدف الأطفال بشكل رئيسي وتعلمهم استخدام السلاح، في غياب تام لإجراءات الأمان والسلامة، ما يضاعف الخطر المحدق بهم، وفرص تعرضهم للإصابات، إذ إنهم الأقل خبرة في الميدان، والأقل قدرة على حماية أنفسهم، وفي الوقت ذاته الأكثر اندفاعًا نحو السلاح متأثرين بالأفكار التي يبثها مجنِّدوهم.
ووسط ظروف طبية لا تقل قسوة عن سطوة السلاح، تضيق الخيارات بالأطفال وذويهم؛ فالخدمات الطبية المتاحة تقتصر على علاجات أولية تقدمها المشافي والنقاط الطبية في المنطقة؛ ينتهي الأمر بمعظم المصابين بإعاقات دائمة، كان بالإمكان تفاديها بحال توفر خدمات طبية مؤهلة.
«غياب كوادر مختصة ترك أثرًا لا يمكن إنكاره»، كما يقول عامل من الكادر الطبي في مشفى الفاروق في ديرالزور –رفض نشر اسمه- «لا يوجد هنا سوى طبيب واحد غير مختص، ناهيك عن أن أغلب الكوادر هم متطوعون، لذا لا نقدم سوى خدمات طبية بسيطة كالتضميد والإسعافات الأولية، ونحوّل الحالات المتوسطة والحرجة إلى مدينة الميادين».
ترعى السيدة أم عمر حفيدها الذي فقد قدرته على المشي إثر إصابته بشظايا صاروخ سقط على منزل مجاور، وتقول إن العائق المادي هو ما يبقيهم هنا، كحال معظم المصابين الذين يقنعون بالخدمات المتواضعة المتاحة لعجزهم عن دفع تكاليف بديل أفضل، وليس أمامهم سوى «حمد الله على البقاء أحياء».
في بيئة ينتشر فيها السلاح يبدو كل شيء آخر غائبًا؛ تكثر الفصائل المقاتلة وتغيب الجهات المسؤولة عن التعامل مع القذائف المهملة هنا وهناك والتي لا يكاد يخلو منزل في دير الزور منها، فضلًا عن مخازن السلاح والذخيرة المطمورة. والأشد خطرًا فكر يشيع بين بعض الأهالي بأن تعليم أطفالهم على السلاح يقيهم خطره.
وتتراكم هذه العوامل فوق ثقافة موروثة تمجد العنف والسلاح وتفخر بصانعه وحامله ومستخدمه؛ وتعقد السؤال متى سينضبط استخدامه، وتتوقف سلسة قصص شبيهة بقصة رغد وحفيد أم عمر، ويخرج أهالي دير الزور من حالة العجز أمام توفير حق الأمان واللعب لأطفالهم، كما تقول ريم، ابنة المدينة، «ما عسانا نفعل! كل ذنبهم أنهم يبحثون عن لعبة للتسلية، ولم يجدوا أمامهم سوى مخلفات الكبار، التي تنفجر مودية بمستقبلهم وأحلامهم وصحتهم، وربما قطف لهيب نيرانها المتصاعد نحو السماء أرواحهم اليانعة».