بيلسان عمر
قام الإقطاع في العصور الوسطى على ميل الحاكم المحلي إلى الاستقلال بما تحت يديه لزيادة ثروته ونفوذه، نتيجة ضعف الدولة المركزية، مع بقاء روابطه بالدولة اسميًا. يسهم في أعمالها الحربية، ويدفع لها الضرائب المفروضة. ولكن هل سيعود الإقطاع للظهور من جديد بعد عصر التنوير الذي اجتزناه بمراحل؟ وهل سيعيد التاريخ نفسه فنمر بطور العبودية فالإقطاعية إلى الرأسمالية فالاشتراكية؟
ما بين الإقطاع والاستثمار
في أيام السلم، كثيرًا ما سمعنا عن أناس يستأجرون أراض زراعية يفلحونها، وفق نظام معين، يقوم على طريقة المحاصصة، إذ يقدم المالك الأرض ويقدم الفلاح العمل، ويقسم المحصول بين الاثنين، أو يلجأ المزارع لطريقة الإيجار التي تجري بموجب عقد بين المالك والمستأجر لفترة محددة. كما ظهرت طريقة التحصيص، ويتم بموجبها تأجير الأشجار المثمرة فقط، إضافة إلى طريقة المغارسة التي يتفق بموجبها المالك والمستأجر على سنوات محددة، على أن يقدم المالك الأرض مقابل أن يغرس المستأجر الأشجار، ويقسم المحصول بنسبة متفق عليها بعد الإثمار.
وتساهم الطرق السابقة كلها في تفتيت المردود الاقتصادي بين المالك والمستأجر، وتؤثر على الأرض المزروعة، وخاصة في ظل عدم وجود مستأجرين يهتمون بالأرض كما لو أنها كانت ملكًا لهم، ولكنها ومع ذلك كلها بقيت طرقًا للاستثمار بالاتفاق بين صاحب الأرض والمستأجر، بعيدًا عن مفهوم الإقطاع، واستغلال صاحب الأرض لمن يفلح أرضه.
مالك الأرض يستأجر أرضه
أن تستأجر أرضًا أخرى أمر ليس بعصيّ على العقل استيعابه، أما أن تستأجر أرضك، فهذا أيضًا لم يعد أمرًا غريبًا، فهذا يحدث في أيامنا. ففي الأراضي الغربية من داريا (المعروفة باسم شوّاقة) بات الأمر شبه طبيعي، إذ يقوم صاحب الأرض باستئجار أرضه من الضابط المسؤول عن أقرب حاجز لها، حيث يمنع مالكو الأراضي من التوجه إلى أراضيهم، إلا أن يدفعوا مبلغًا شهريًا لذاك الضابط، وله أن يأخذ ما طاب من المحصول، متى وكيف أراد، كما له أن يقطع المياه عن تلك الأراضي متى شاء.
أبو محمد، مالك أرض في شواقة، يقول: «تبعد أرضي عدة أمتار عن الحاجز، وصدرت تعليمات من عناصر الحاجز بعدم التجول بين الأراضي إلا في أوقات محددة، ولا يسمح لنا الذهاب لأراضينا إلا بعد أن نتصل بالضابط المناوب، لنأخذ الإذن منه، بحجة أنه سيخبر بدوره القنّاص بألا يطلق النار علينا، ومع ذلك كثيرًا ما تعرضنا ونحن نفلح الأرض لإطلاق نار متعمّد، وأصيب عدد منا بجراح بعضها خطيرة، وفي نهاية كل شهر علينا أن ندفع مبلغًا من المال أقله خمسة آلاف ليرة سورية».
نظام استئجار هو الأسوأ من نوعه، فلا الاتفاق على الموسم ولا على عدد دونمات الأرض، ولا على كمية إثمار الأشجار، وإنما شهريًا، بغض النظر عن نسبة الإنتاج، ويتابع أبو محمد «يعني أرضي، بدفع أجرتها كل شهر، وما بقدر أوصل لها بدون إذن، وبشتغل فيها بكل رعب مع كاميرات المراقبة».
ومع ذلك كله يسخر أبو رائد، مالك آخر لأرض هناك، «جيد حتى الآن أن العلاقة بيننا وبين ضباط الحواجز الأمنية وعناصرهم، علاقة انتفاع بأملاكنا، وطريقة استثمارها وإدارتها، ولم تتحول بعد إلى حق تمليكهم وتوريثهم، وإن كان الأمر ليس بمستبعد».
صاحب المحصول يُجبر على الاتّجار بمحصوله
يتوارى بعض الفلاحين وأبنائهم عن أعين النظام وأزلامه، في مزارع وأراض بعيدة، يعملون بها، ويقتاتون منها، ولكن تواجههم مشكلة تصريف المحصول، فكيف سينقلون محاصيلهم إلى السوق مرورًا بالحواجز الأمنية التي تملأ الطرقات؟ ومن سيخاطر بأمنه وحياته، ويعرّض نفسه لخطر الاعتقال مقابل نقل هذه المحاصيل؟.
هنا يظهر إقطاع من نوع آخر، إذ يدرك عناصر النظام وقوى جيشه هذا الأمر، فيقومون بالاتفاق مع مالكي الأراضي، على نقل هذه المنتجات. يضمن صاحب الأرض وصول محصوله إلى السوق بسرعة، مرورًا على الخط العسكري، فلا يتعرض للتفتيش، وإنزال حمولته من السيارة، وغالبًا ما يكون الاتفاق مجحفًا بحق مالكي الأراضي، المهم بنظرهم تصريف المنتجات، وبقاؤهم وأبناؤهم بعيدًا عن الحواجز الأمنية، وخطر الاعتقال، في نوع جديد من الإقطاع وبأبشع صوره.
ولكن الأمر لم يتوقف هنا، إذ تستقدم العناصر الأمنية صبية يجلسون على الأرصفة يبيعون المحصول، في عملية إجبار لصاحب المحصول أن يتاجر بمحصوله، فيبيعه لهم بثمن بخس، ويُجلس ابنه فيشتري الناس منه بثمن باهظ، مع فارق أرباح لأولئك العناصر، وأجر رمزي لهؤلاء الصبية، وهم أبناء أصحاب الملك غالبًا.
حال عناصر النظام «أنت اشتغل، وأنا بشتري منك المحصول، وبخلي أولادك الصغار اللي ما بخافوا يمروا ع الحواجز يقعدوا يبيعوا لي المحصول، وأنت بتوصل لك لقمة نهارك مو أكتر».
وليت الأمر توقف هنا، فجانب أولئك العناصر غير مأمون، فما يلبثون يتعرفون على أصحاب الأراضي وأبنائهم، وسبب تواريهم، حتى يقومون بالإيقاع بهم، وتسليمهم إلى السلطات المختصة.
الإقطاع يدخل المنازل بدون استئذان
«ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم» اعتدنا على سماعها بشكل كبير، ولكن لم ندرك يومًا أن يزداد اللؤم هذا الحد، وأن يختلط الشرر المتطاير من عيون أصحاب الحرف مع حاجة النسوة للعمل، إذ تعاني المرأة في سوريا إضافة إلى ألم فقد الزوج والأب والأخ والابن في هذه الحرب، فقدان المعيل، ليقع على عاتقها عبء تأمين متطلبات المعيشة اليومية وإيجار المنزل، ولتضطر للعمل بأعمال لم تكن تفعلها من قبل، بليرات معدودة، وبمجهود جسدي ونفسي كبيرين، بعد أن باعت كثيرات منهن ما ادّخرنه لوقت الحاجة مرورًا بخواتم زواجهن، وبثياب يلتحفونها.
إذ انتشرت لدى أولئك النسوة الأعمال المنزلية المتعلقة بالمنتجات الزراعية (ملوخية، بازلاء، فول، تقطيع خضراوات) وكذلك تحضير المأكولات، وإعداد الأجبان والألبان، والخياطة، حياكة الصوف، التطريز، شك العباءات، تنظيف المنازل، شطف أدراج الأبنية، وكل همهم تأمين قوت أولادهم اليومي.
السيدة أم رامي استشهد زوجها تحت التعذيب في أقبية المخابرات السورية، وابنها معتقل، لم تجد بدًّا من العمل (بالأجرة)، «في الصيف أعمل بتقطيع الملوخية، وفي الشتاء بالبازلاء والفول، ولكن أكثر ما يزيد معاناتي، عندما يأتي صاحب الرزق لأخذ ما أنتجت، وبصوت خشن، وعيون تقدح نارًا وشررًا، «خالتي شو وين بقية الورشة»، مستنكرًا غياب بناتي الصبايا عن العمل معي، «ما كنت أتخيل يوم صير فيه أنا وبناتي ورشة وأتعرض للإهانة بنص بيتي».
ويُقعد المرض السيدة أم محمد، فيمنعها من إعالة أسرتها بعد اعتقال زوجها، لتضطر بإرسال ابنتها ذات الرابعة عشر ربيعًا للعمل في منزل أحدهم، «لما تطلع بنتي ع شغلها بحس روحي عم تطلع، وجلدي عم ينفصل عن جسمي، بنت بأول صباها رايحة ع بيت غرباء، ما بعرف مين بيحكي معها، شلون بعاملوها، وبيجي صاحب البيت بآخر كل شهر لعندي يرمي لي أجرة الشهر».
أن تقتطع من وقت الآخرين.. جهدهم.. صحتهم.. أمنهم وأمانهم.. كرامتهم.. جهدهم وتعبهم.. عرق جبينهم.. نصيبهم الحقيقي من الأجر.. احترامك لهم.. فأنت إقطاعي ولو كنت أميرًا في عصر التنوير المزعوم هذا.
أرض شواقة:
تعتبر المنطقة من أراضي داريا الزراعية من جهة الغرب، اعتاد أهالي المدينة زراعتها إلى جانب أراضٍ مجاورة كالشويحة وفشوخ والمراح ونجاصة.
لكنها خارج داريا تنظيميًا ويفصلها عن باقي الكروم أوتوستراد صحنايا-جديدة.
كانت المياه تصل إلى المنطقة من نهر الأعوج (الغربي)، لكن الفلاحين أصبحوا يعتمدون في
السنوات الأخيرة على مياه الآبار بسبب تراجع منسوب النهر.
عثرت دائرة آثار ريف دمشق، في آذار 2010، على مدفن أثري قديم يعود للفترة ما بين القرنين الثالث والسادس الميلاديين، في ظاهرة اكتشف خلالها 5 مدافن، ما اعتبره مدير الدائرة آنذاك، محمود حمود، دليلًا على كثافة سكان داريا في تلك الحقبة.
بني فيها مسجدا العادل وحذيفة بن اليمان، مع مطلع الألفية الجديدة وانتشار عددٍ من المزارع (الفيلات) فيها.
نزح إلى شواقة قرابة 5 آلاف مدني بعد الحملة العسكرية على داريا نهاية عام 2012، ويواجهون تضييقًا وحملات اعتقال متكررة من قبل الحواجز المحيطة، غالبًا تكون ردًا على الأحداث الميدانية داخل المدينة، كورقة ضغط لصالح النظام.