الأكراد.. وهوية سوريا الهشة

  • 2015/08/02
  • 6:37 م

ملحق

محمد رشدي شربجي
بالتعاون مع أرشيف المطبوعات السورية

 

يدافع لويس جان كالفي عن فرضيته المثيرة في أن العالم منذ بداية التواصل البشري كان متعدد اللغات، وعليه يبني أن ما أسماها «حرب اللغات» تبدو محفورة في تاريخ البشرية منذ حولت البشرية أصواتها الأولى وإشاراتها الأولى إلى علامات لغوية(1).

ونجد في القرآن والكتاب المقدس ما يشير إلى حقيقة التعدد اللغوي منذ القدم، ففي الكتاب المقدس: (فقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل لسانهم هناك حتى لا يسمع بعضهم كلام بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض فكفوا عن بنيان المدينة، لذلك دعي اسمها بابل)(٢).

وفي القرآن الكريم: (ومن آياته خلْق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)(3).

والملاحظ تزايد الاهتمام في العقود الأخيرة بقضايا التنوع الثقافي واللغوي والعرقي، ويفسر ويل كيمليكا هذا الزخم بما شهدته أوائل تسعينيات القرن الماضي من تشاؤم عميق حول السياسات العرقية في دول ما بعد الاستعمار وما بعد الشيوعية (التي شهدت اضطرابات ذات أسس عرقية ولغوية عديدة)(4)، وتفاؤل عميق بالسياسات العرقية في الغرب(5).

ولا يكفي طبعًا الاهتمام الإنساني بوقف معاناة الأقليات لتفسير هذا القلق الغربي، فالإنسانية نادرًا ما تفسر تحركات الغرب، بحسب كيمليكا، فقد ساد اعتقاد في الدوائر الأوروبية أن تزايد العنف العرقي سوف يولد حركات لجوء واسعة النطاق إلى أوروبا الغربية، كما أن الحروب الأهلية العرقية والتمرد أصبحت فيما بعد ملاجئ لتهريب الأسلحة والمخدرات، وهناك سبب آخر أكثر انتشارًا، هو اعتقاد الغرب أن قدرة بلدان ما بعد الشيوعية في التعامل مع اختلافاتها العرقية كان اختبارًا شاملًا لمدى نضجها السياسي، وبالتالي لمدى استعدادها لتنضم إلى أوروبا(6).

ويضاف إلى هذا عامل مهم، وهو العولمة الثقافية التي ضيقت كثيرًا على الخصوصيات المحلية(7)، كما أنها تفرز حاليًا نموذجًا ثقافيًا جديدًا ينتشر في أنحاء العالم، يسهم في إضعاف سلطة الدولة على التحكم بما يقدم إلى شعوبها من سلع ومنتوجات فكرية(8)، وهو ما عزز دعاوى الحفاظ على التنوع الثقافي.

أسباب عديدة إذن أنتجت قناعة عالمية بضرورة حماية التنوع الثقافي واللغوي والعرقي، وهو ما نجده في كثير من الإعلانات العالمية الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات العاملة معها(9).

وقد شهدت السنوات الأخيرة مراجعات من قبل المنظمات الدولية لشكل الدولة «الحديثة»، فبات ينظر إلى الدول متعددة اللغات والمستويات، ذات البناءات الداخلية المعقدة للاعتراف بالمناطق الإقليمية والأقليات وتمكينها، على أنها تمثل المنظور الأكثر حداثة (أو حتى ما بعد الحداثة)، أما الدول التي تمسكت بشدة بالنموذج الوحدوي والمركزي القديم (فرنسا وتركيا مثلًا) فباتت توصف على نحو متزايد على أنها رجعية (10).

تعتبر قضية التعدد اللغوي وإشكالات الهوية قضية حديثة، وقد ناقش عدد من الكتّاب والباحثين هذه القضية الإشكالية.

يعتبر أمين معلوف أن الهوية من الكلمات المضللة:

«فنحن جميعا نعتقد بأننا ندرك دلالتها، ونستمر بالوثوق بها وإن راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة» (11)

في حين أن الهوية مجموعة من الانتماءات المتعددة (أهمها اللغة)، وإدراك ذلك سينشئ «علاقة مغايرة مع الآخرين، وكذلك مع (العشيرة) التي ننتمي إليها، ولا يعود الأمر يقتصر على (نحن) و(هم)»(12).

فاللغة ليست معادلًا تامًا لجنس الهوية، ولا تستقل عنها، بل هي جزء منها، وأهم مكوناتها الدينامية(13)، وبتعبير آخر، هي أقدم تجليات الهوية وهي بهذا المعنى مرآة عاكسة للهوية الاجتماعية، ومقوم أساسي ضامن لوحدتها واستمرارها (14)، ومبدعة لها وتدرج في المقام الأول في سلسلة مكونات الإطار المرجعي والهوياتي، إنها تعطي الأنماط التي نفكر فيها، والتي بواسطتها نبني العالم(15).

بيد أن هذا الدور المهم الذي تقوم به اللغة في تشكيل الهوية الثقافية، لا يعني بتاتًا أنها العامل الوحيد والحصري في تكوينها، فلا يوجد في العالم شخص يعرف نفسه بشكل أحادي.

وتمتاز اللغة العربية من غيرها من اللغات بأنها كانت وما تزال تلتصق بها هوية الدين، فهذا الجانب السماوي من هوية المواطن المسلم يرتبط ارتباطًا وثيقًا باللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم والحديث النبوي(16).

مظاهرات في سوريا ضد الانتداب الفرنسي خلال 1940

 

لقد شكلت اللغة العربية الحامل الثقافي الأساسي للهوية السورية منذ ما قبل الاستقلال (1946)، وقد قاوم السوريون الانتداب تحت الراية العربية لا السورية(17)، كما تجلى ذلك بوضوح بكون سوريا البلد العربي الوحيد الذي أجرى تعريبًا شاملًا لمناهج التعليم على كل المستويات(18)، عدا عن كون كبار المنظرين للقومية العربية هم من أبناء سوريا.

ولكن الخلل في تكوين الدولة السورية كان كامنًا فيها منذ بدايتها، فسوريا تقع في قلب إقليم يمكن وصفه بالرخو جيوبوليتيكا (fragile region)، فالإقليم تشكل نتيجة توافقات دولية أعقبت الحرب العالمية الأولى، والمناطق الرخوة هي أقاليم أو دول تضم مكونات مجتمعية مختلفة (لجهة الدين أو العرق أو المذهب أو الاثنية أو الطائفة)، ما زالت غير قادرة على تشكل وعي عابر للهويات الفرعية وقائم بالدرجة الأولى على الانتماء لكيان أكبر أو أعلى من الانتماءات التقليدية، باختصار إنها المناطق التي لم تتشكل فيها الدولة-الأمة (19)nation state.

فسوريا بلد فتي، لم يكن موجودًا قبل 1918، والتجربة المكونة لهذا البلد هي تجربة فصل عن السلطة العثمانية وتقسيم واقتطاع، والمجتمع السوري متعدد إثنيًا ودينيًا ومذهبيًا، ولم يكن عميق التوحد والاندماج في أي وقت سبق، ولم تكن الوطنية السورية راسخة الجذور والمقومات ذات يوم، ثم أتى البعثيون وفككوها، من يقرأ تاريخ سوريا الحديث -وليس لسوريا تاريخ غير حديث- منذ أيام الانتداب الفرنسي حتى أيامنا، يلحظ أن الشعب السوري لم يوجد كفاعل سياسي موحد في أي وقت، كانت هناك أخطاء كبرى في عملية صنع الشعب أو الأمة في سوريا(20).

ولعل الأحداث الجارية الآن في سوريا تبين أكثر من أي وقت مضى هشاشة الهوية السورية، وهو ما يوجب العمل أكثر من أي وقت مضى على مناقشة قضاياها بغية الوصول إلى هوية جامعة لكل أبناء الوطن.

اللغة الكردية

تعد اللغة/اللغات الكردية اليوم تفرعًا من شجرة اللغات الإيرانية، التي تفرعت بدورها من شجرة اللغات الهندو-أوروبية indo-European، وهي أقرب اللغات إلى الفارسية(21).

أما اللهجات/اللغات الكردية فهي عديدة جدًا، أبرزها: الكرمانجية ويتكلم بها أكراد سوريا وتركيا وبعض أكراد العراق، والسورانية ويتحدث بها أكراد العراق وأجزاء من إيران(22).

ويكتب الكرد بألفبائيتين: اللاتينية المعدلة وتنتشر في تركيا وسوريا، والعربية المعدلة وتنتشر في العراق وإيران.

المطالب الكردية

يشكل الأكراد في سوريا حوالي 10% من السكان(23)، ويتجمعون بشكل أساسي في ثلاث مناطق، هي محافظة الحسكة (الجزيرة)، وعين العرب (كوباني) شمال الرقة، وعفرين في شمال حلب.

البدايات

كانت المطالب اللغوية/الثقافية/السياسية حاضرة منذ بدء تشكل الدولة السورية، ففي العريضة التي قدمها خمسة نواب أكراد في البرلمان السوري في حزيران/يونيو 1928، طالبوا فيها بحكم ذاتي أسوة بباقي الدويلات والشعوب في سوريا، كما تضمنت المطالب التالية:

  • استعمال اللغة الكردية في المناطق الكردية، شأنها شأن بقية اللغات الرسمية.
  • تعليم اللغة الكردية في المدارس في تلك المنطقة.
  • تبديل موظفي هذه المنطقة بموظفين أكراد.
  • إنشاء فيلق أو جيش كردي ضمن إطار الجيش الفرنسي لحماية الحدود.

جلادت بدرخان 1893 – 1951

جلادت بدرخان

أصدر بدرخان كتاب قواعد الألفباء الكردية في دمشق(25) عام 1932، وقد استلهم ذلك من الإصلاح الديني الذي قام به مصطفى كمال في تركيا، البلد الذي تسكنه الأغلبية العظمى من أكراد اللهجة الكرمانجية.

وبعد عدة سنوات من التنقيب عن علم الأصوات الكردية، وضع نظامًا قريبًا جدًا من النظام الذي اتخذه الأتراك بمساعدة اختصاصيين دوليين.

ظهرت هذه الحروف أول مرة في مجلة «هاوار» الكردية (1932-1943)، التي نشرها بدرخان في دمشق بالحروف العربية واللاتينية، ثم ظهرت بالحروف اللاتينية فقط، ثم استعملت هذه الحروف فيما بعد في نشرات دورية أخرى في سوريا، منها مجلة «روناهي» (1942-1945)(26)، وهي الآن المستعملة بين أكراد تركيا وسوريا.

الحراك الكردي ما قبل 1957

وتمثل بالعديد من الجمعيات والنوادي الثقافية والرياضية مثل جمعية خويبون 1927، جمعية الأمل (هيفي) 1937، نادي شباب الكرد، نادي كردستان (1938)، نادي صلاح الدين، نادي شباب الكرد في عامودا، جمعية الشباب الديمقراطيين الأكراد 1953، جمعية إحياء الثقافة الكردية 1955، جمعية المعرفة والتعاون الكردي، وكتلة الحرية (آزادي)، وجمعية الطلبة الكرد في جامعة دمشق (27) 1957.

تأسيس أول حزب كردي 1957

في 14 حزيران1957 تأسس الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا، برئاسة نور الدين زازا، واندمجت بالحزب كل الجميعات الكردية الفاعلة حتى تاريخه، وكانت أهدافه تكمن في الدفاع عن الكيان القومي لأكراد سوريا، وتأمين الحقوق الثقافية والإدارية لهم «في إطار نظام ديمقراطي لمجموع البلاد»(28). تعرض الحزب لحملة اعتقالات طالت معظم قياداته في صيف 1960، ويشير زازا خلال محاكمته إلى:

«عزم السلطات على قتل الثقافة الكوردية، ورفضهم منح الجنسية السورية لعدد كبير من الكورد القاطنين في سوريا منذ عدة أجيال، وذكّرت نفس السلطات بتعريب المناطق الكوردية وذلك بطرد الكورد من قراهم واستبدالهم بالعرب»(29).

انشق الحزب الديمقراطي الكردي لأول مرة في عام 1965، ثم توالت الانشقاقات حتى وصل عدد الأحزاب المتفرعة عنه إلى حوالي 30 حزبًا.

وتختلف الأحزاب في برامجها السياسية كثيرًا أو قليلًا، ولكنها جميعًا ما قبل الثورة تتفق على ضرورة ترسيم اللغة الكردية دستوريًا، واعتراف دستوري بالشعب الكردي وبأنه يعيش على أرضه التاريخية، وإيقاف حملات تعريب أسماء القرى الكردية، وإعطاء الجنسية للمكتومين والسماح بالتعليم والتدريس بالكردية، وهو ما نجده في «الرؤية المشتركة للحل الديمقراطي للقضية الكردية في سوريا 2006» التي قدمتها الأحزاب(30).

الثورة السورية آذار 2011

التأمت الأحزاب الكردية السورية في تجمعين هما:

-1 المجلس الوطني الكردي: تأسس في 26/10/2011، وقد تشكل من الأحزاب الكردية المتفرعة من الحزب الكردي الأول، وشهد مؤتمر التأسيس ارتفاعًا ملحوظًا في سقف المطالب الكردية، حيث طالب المؤتمرون باللامركزية السياسية، بالإضافة إلى الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي كمكون رئيسي في البلاد وغيرها(31).

-2 مجلس شعب غرب كردستان: تأسس في 21/1/2011. شكله حزب الاتحاد الديمقراطي PYD (فرع حزب العمال الكردستاني)، وقد أقر المؤتمر الأول لمجلس شعب غرب كردستان عدة قرارات منها: مقاومة سياسات الصهر القومي وإلغاء كافة المشاريع العنصرية وإزالة آثارها، وإعادة الأسماء الأصلية لجميع مدن وبلدات وقرى غرب كردستان(32).

ومن الملاحظ ارتفاع منسوب النفس القومي لدى الأكراد خلال الثورة، كما طغت مفردات الفيدرالية، وغرب كردستان (روج آفا) على الخطاب السياسي الكردي، وعدلت كثير من الأحزاب أسماءها وأضافت مفردة «كردستاني» عليها(33).

استفاد PYD من الفراغ الذي خلفه انسحاب الجيش السوري من المناطق الكردية، وانتعشت دراسة وتعليم اللغة الكردية، كما أسست العديد من الهيئات اللغوية الكردية، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2013 أعلن حزب الاتحاد «الإدارة الذاتية الديمقراطية للمناطق الكردية»، وطبق نموذجه في الحكم وأدخل بقرار منفرد اللغة الكردية في المناهج السورية، كما أقدم «كانتون عفرين» على فرض التعليم باللغة الكردية فقط إلى حد الصف الثالث الابتدائي(34)، مع ما أثاره ذلك من مشكلات على صعيد الاعتراف بالشهادة المعطاة من المدارس(35).

الدولة السورية والأكراد

دستور 1950: لا نجد في دستور 1950 أي إشارة للكرد، ففي المادة الأولى من الدستور تعرف الدولة بأنها «جمهورية عربية والشعب السوري هو جزء من الأمة العربية»، وفي المادة الرابعة أن «اللغة العربية هي اللغة الرسمية»(36).

دستور الانفصال 1961

وقد تم بموجبه إعادة تطبيق دستور 1950، مع تعديل اسم الجمهورية ليصبح اسمها  «الجمهورية العربية السورية» بدل «الجمهورية السورية».

ويبدو أن قادة الانفصال كانوا يحتاجون لامتصاص نقمة الأوساط القومية العربية الناقمة على الانفصاليين، فاتخذوا من الأكراد مادة لإثارة المشاعر القومية(37).

الإحصاء الاستثنائي 1962

في 5 تشرين الأول/أكتوبر 1962 قامت حكومة العظم بعملية إحصاء استثنائي للسكان في محافظة الجزيرة (الحسكة)، وتمخضت عملية الإحصاء عن تسجيل 85 ألف «مقيم» في محافظة الحسكة في يوم واحد بصفة «أجانب تركيا»، بطريقة غلب عليها الانتقام.

وفي أوائل تشرين الثاني/نوفمبر استكملت حكومة العظم وضع مبادئ «برنامج إصلاح منطقة الجزيرة»، وتولى صوغه كل من سعيد السيد محافظ الحسكة، ووزير الداخلية، وتمثل جوهر البرنامج في اعتماد سياسة «تعريب» الجزيرة(38).

ما بعد البعث (1963-2011)

يتبنى حزب البعث أيديولوجية قومية مبالغًا فيها، فنجد في سياسة الحزب في التربية والتعليم «طبع كل مظاهر الحياة الفكرية والاقتصادية والسياسية والعمرانية والفنية بطابع قومي عربي»، و«حصر مهنة التعليم وكل ما له مساس بالتربية بالمواطنين العرب ويسثنى من ذلك التعليم العالي»(39).

الحزام العربي

اقتراح الملازم أول محمد طلب هلال في دراسته عن الجزيرة فكرة «الحزام العربي»(40)، وقد جلبت الدولة العائلات التي غمرها سد الفرات ووطنتها في الشريط الحدودي.

ومن المهم القول إن الصخب القومي البعثي المصاحب للمشروع أدى إلى ردات فعل كردية كبيرة، مع أن حقيقة المشروع هي أقل مما يثار عنه(41).

دستور 1973

أجرى حزب البعث استفتاءً شكليًا أقر بموجبه الدستور الدائم في 13/3/1973، أكد فيه على عروبة واشتراكية الدولة بشكل مبالغ فيه، وأضاف له المادة الثامنة التي تقول بأن:

«حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة»(42).

وقد كرست هذه الأوضاع قوانين مجحفة بحق الأكراد السوريين، ومع مرور الزمن توسع الحظر على الأنشطة الثقافية الكردية، ومنع استعمال اللغة الكردية، كما حظر على الشركات استخدام أسماء كردية، وازدادت هذه الإجراءات حدة بعد آذار 2004، حيث أدى شجار بين فريقي كرة (دير الزور/الحسكة) إلى إحداث مظاهرات كبيرة نتيجة إطلاق القوات السورية النار على المحتجين الأكراد، الذي أدى إلى مقتل حوالي 34 شخصًا(43).

كما أصدرت الحكومة مجموعة من المراسيم الخاصة التي كان لها تأثير مدمر على الحياة الاقتصادية للأكراد، أبرزها المرسوم 41 لعام 2004، والمرسوم 49 لعام 2008، الذي منع بموجبه التصرف أو الاستثمار في المناطق الحدودية، والذي شمل عمليًا كل المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال سوريا.

ما بعد الثورة

حاول النظام استرضاء الأكراد بغية حرفهم عن الانخراط في الثورة من خلال تحقيق بعض المطالب المزمنة للحركة الكردية، فأصدر في 7 نيسان/أبريل مرسومًا يقضي بمنح المسجلين في سجلات أجانب الحسكة، كما عدل المرسوم التشريعي رقم49 (44).

وأشار دستور 2012 في مادته التاسعة إلى ضرورة «حماية التنوع الثقافي للمجتمع السوري وتعدد روافده»(45)، كما ألغى المادة الثامنة، وزاد من تنسيقه مع حزب الاتحاد الديمقراطي، حيث قام بتسلميه المناطق الكردية مقابل تركيز النظام على المعارضة السورية(46)، كما أعلن النظام بدء مشروع تدريس مناهج اللغة الكردية في سوريا، وقد ابتدأ ذلك في معهد اللغات في دمشق، والعمل جار على إحداث قسم دراسات للغة الكردية في كلية الآداب(47).

ومن الجدير بالذكر أن النظام سيعتمد الألفبائية العربية في تدريس الكردية، وهو ما من شأنه أن يكرس الانقسام اللغوي في الساحة الكردية العامة(48).

المعارضة السورية

يعتبر إعلان دمشق 2005(49) أول تحالف بين المعارضة العربية والكردية في تاريخ سوريا الحديث، وقد دعا الإعلان إلى إيجاد حل ديمقراطي عادل للقضية الكردية في سوريا (بما يضمن المساواة التامة للمواطنين الأكراد السوريين مع بقية المواطنين من حيث حقوق الجنسية والثقافة وتعلم اللغة القومية وبقية الحقوق الدستورية والسياسية والاجتماعية والقانونية)(50).

أصدرت جماعة الإخوان المسلمين في أيار/مايو 2005 رؤيتها عن القضية الكردية في سوريا أشارت فيها إلى المظالم الكردية وضرورة معالجتها والاعتراف بـ «خصوصية» الشعب الكردي، الذي يعيش على «أرضه التاريخية»(51).

وبعد الثورة أصدرت كل تشكيلات المعارضة السورية في بياناتها التأسيسية وفي أوراق منفصلة رؤاها الداعمة لحل القضية الكردية(52).

كما أعلنت الحكومة السورية المؤقتة عن إعدادها لطبع كتب باللغة الكردية(53)، واعتمد الائتلاف الكردية لغة رسمية في مداولاته(54).

الإعلام الثوري البديل

ظهرت بعد الثورة مئات الصحف كإعلام بديل عن الإعلام الرسمي للنظام السوري، ولكننا اقتصرنا في دراستنا هذه على صحف الشبكة السورية للإعلام المطبوع(55) SNP، على اعتبارها أكبر تحالف إعلامي للصحف الأكثر انتظامًا، وأكثرها طباعة للأعداد أسبوعيًا، وكانت آراء رؤساء تحرير هذه الصحف بخصوص تغطية الملف الكردي على الشكل التالي:(56)

جواد أبو المنى

رئيس تحرير جريدة «سوريتنا»:

«لم تهتم (سوريتنا) في البدايات بالقضايا الإشكالية، والسياسية منها تحديدًا، وبعد أن أصبح لدينا مراسلون في منطقة الجزيرة (الحسكة) بدأنا بالتعمق قليلًا، ولكن المشكلة أن الحالة الكردية شديدة التعقيد، والناشطين والمراسلين الأكراد لديهم آراء شديدة الاختلاف والتعارض تجاه القضية نفسها، ولذلك نركز الآن على الجوانب الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية أكثر من السياسية.

بسام يوسف

رئيس تحرير جريدة «كلنا سوريون»:

«لم تغب الأحداث التي تقع في مناطق تواجد الأكراد عن جريدتنا، لكنّنا نقارب هذه الأحداث بطريقة مختلفة قليلًا».

يضيف يوسف «لا نرى أنّ هناك حدث كرديّ خاصّ، فما يحدث في مناطق الأكراد، نقرأه ضمن ما يحدث للسورييّن كافّة، لكنّنا قد نواجه حدثًا شديد الخصوصيّة في منطقة الأكراد مثل (الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة) أو دخول قوّات البشمركة إلى عين العرب (كوباني) وفي هذه الحالة فإنّنا نتناول الموضوع بخصوصيّته».

«لعلّ جريدة كلّنا سوريّون هي الوحيدة التي أجرت لقاءً موسّعًا مع رئيسة المجلس التنفيذيّ لـ (كونتون) عفرين، السيّدة هيفي إبراهيم، كما قامت بتغطية واسعة للعمليّات العسكريّة التي جرت في عين العرب (كوباني)، كما أنّ الجريدة خصّصت صفحة كاملة ليوم النيروز، وفي تغطية ملفّ الأحداث السياسيّة في سوريا تمّت مشاركة حزبين سياسيّين كرديّين في الملفّ، وتتمّ تغطية نشاطات من داخل المناطق الكرديّة بشكل دوريّ في الجريدة عبر مراسل لها موجود في عفرين).

جواد شربجي

رئيس تحرير جريدة «عنب بلدي»:

يعتقد شربجي أن عنب بلدي هي الصحيفة الوحيدة التي تعترف في نص سياستها التحريرية بعدم قدرتها على تغطية الملف الكردي، ويعلل ذلك بتعقيد الملف، وبعدم وجود كادر مؤهل ملم بتفاصيل الحالة الكردية، و «قد أضفنا ذلك إلى سياستنا التحريرية بعد صدامات مع أصدقائنا الأكراد بخصوص عدة مواد نشرناها، وتكمن المشكلة في رأيي بالحزبية الشديدة لدى الأكراد، وهذا يضعف الثقة بما ينقل لنا عن مراسلينا هناك»

دياب سرية

رئيس تحرير جريدة «تمدن»:

يقول سرية «قمنا في أعدادنا الأولى بتغطية واسعة للحالة الكردية، ولفترة طويلة خصصنا صفحة ثابتة عن الشأن الكردي في كل عدد، كما نركز على الجانب الخدمي الحياتي أكثر من الجانب السياسي، ولكن الوضع الكردي معقد جدًا ومليء بالألغام، وطغيان الخطاب القومي عند مراسلينا هناك زاده تعقيدًا. هناك مشكلات كثيرة اعترضت طريقنا في التعامل مع المراسلين، منها تسميات المدن، وكلمات إشكالية مثل كردستان الغربية، ويضاف إلى ذلك احتدام الأحداث في عموم سوريا أكثر نسبيًا من المناطق الكردية، كل هذا أدى إلى تقليل تغطيتنا للشأن الكردي».

عود على بدء: الهوية السورية على المحك

يبين ويل كيمليكا أسباب فشل ما أسماه «التعددية الثقافية الليبرالية» في عالم ما بعد الاستعمار، ويلخصها بأن الأقليات طالبت بتعددية الدولة قبل تماسك مؤسساتها الديمقراطية، (وذلك يزيد بشكل كبير من المخاطر المصاحبة لتبني الحكم الذاتي الإقليمي، هناك ضمانات أقل بأن تمارس الأقليات سلطتها بطريقة تحترم القانون)، ومن الوارد أن تحاول الأقليات مهاجمة «الدخلاء» الذين انتقلوا ربما منذ عدة أجيال سابقة إلى منطقة الأقلية (57)، وهو الخطاب الذي يبدو أحيانًا عند الأكراد الداعي إلى طرد كل العرب من مناطقهم.

ننهي هذه الدراسة بالنقاط والتوصيات التالية:

– إن المقدمة لحل القضية الكردية في سوريا هي ترسيخ وتثبيت الديمقراطية، وبشكل أدق هذا حل لأي قضية.

– لقد أسهم التطرف القومي العربي (لا سيما بعد مرحلة البعث) في جعل اللغة العربية قضية سياسية بعد أن كانت قضية هوية غير مختلف عليها.

– كما دفع التطرف القومي ذاته الأكراد نحو مطالب أكثر جذرية، فبعد سنوات من إهمال المطالب الثقافية للأكراد تجذرت هذه المطالب وأصبحت تنادي بالفيدرالية والانفصال.

– بعيدًا عن مناقشة الفيدرالية نظريًا، فإن احتمال قيام إقليم كردي معدوم، فالمناطق الكردية منفصلة عن بعضها بفواصل جغرافية كبيرة، ولا يشكل الأكراد أغلبية مطلقة في منطقة الجزيرة العليا (الحسكة)، عدا عن الرفض التركي القاطع لقيام هكذا خيار.

– نجد تفهمًا من قبل المعارضة للقضية الكردية وأحقيتها، وفي الوقت الذي تؤمن فيه أوساط في المعارضة السورية بالمشاركة الحقة، فإن توجه النظام نحو الأكراد لم يكن ليحدث لولا الضغط الذي أحدثته الثورة عليه.

– وجدنا أن الإعلام السوري البديل قدم محاولة جدية لتغطية الملف الكردي ومد جسور الثقة، ولكن تعقيدات الملف وغموضه والتطرف القومي أدى إلى التراجع قليلًا، وهو ما يحتم أن تعمل الصحف السورية البديلة (لا سيما صحف الشبكة السورية للإعلام المطبوع) على صياغة استراتيجية مشتركة للتعاطي مع هذا الملف.

– من الخطأ أن تطالب الأغلبية التي تشكل 90% من الدولة بالتخلي عن عروبتهم بحجة وجود أقليات غير عربية، ولكنها في الوقت نفسه تصر على تسمية «كردستان سوريا» مع أن هذا الإقليم يفترض أن يحتوي على أقليات غير كردية، وليست القضية قضية اسم الجمهورية بقدر ما هو سعي لدى بعض الأكراد نحو نفي الهوية العربية.

– لقد أسهمت الشعارات غير المدروسة في إثارة المخاوف مجانًا في الأوساط العربية التي باتت تنظر لأي مطلب كردي بعين الريبة.

– لا شك أن العروبة كانت حاملًا ثقافيًا مهمًا للهوية السورية، ويجب أن تبقى الحامل الأهم، ولكن يتحتم أن تصبح اللغة الكردية جزءًا من هذه الهوية في سوريا الجديدة.

– كما يجب على الدولة السورية في المستقبل دعم اللغة الكردية وتنميتها مع الحفاظ على العربية كلغة جامعةً.

  • وأخيرًا يجدر القول بأن المطالب الكردية هي في عمقها مطالب التنمية المفقودة في ظل الأسد.

 

مقالات متعلقة

ملاحق ومنشورات

المزيد من ملاحق ومنشورات