بسام الأحمد
قلّما تحاول المنظمات العاملة بمجال توثيق الانتهاكات أو اللجان الأممية الخوض في الأسباب “غير المرئية” لأي انتهاك، التي قد تدفع بأحد أطراف النزاع إلى ارتكاب فعل غير قانوني، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالجرائم والفظاعات التي يشكّل انتماء الضحية العرقي أو الديني أو الطائفي السبب الأساسي لارتكاب المخالفة فيها، وهو أمر يحتاج، بطبيعة الحال، إلى جمع كمية غير قليلة من الأدلة، من خلال عملية توثيق محايدة ومستقلة، على أن تُتبع بتحليل منطقي يساعد على فهم السياق والدوافع الحقيقية للجناة.
تتكفّل لجان الحقيقة، كهيئة يُناط بها إجراء تحقيقات غير قضائية في الدول الخارجة من النزاعات، بالغوص في تفسير ما حدث والبحث بحيثيات وملابسات الانتهاكات الواقعة لفهم الأسباب والعواقب. ولأن بعض الدول أنشأت مثل هذه اللجان كأداة لتعزيز المصالحة الوطنية، غالبًا ما يتمّ “التستر” على الأبعاد الدينية أو الطائفية أو الإثنية لانتهاكات محددة ضمن أي نزاع، والحديث عنها من خلال مصطلحات عامة قد يتمّ الإشارة إليها أحيانًا بمصطلح “فهم الأسباب الجذرية” للصراع، دون الخوض عميقًا في تلك الأسباب.
تشكّل حالات القتل الجماعي التي حدثت في البيضا ورأس النبع بمدينة بانياس خلال أيار من عام 2013، على سبيل المثال لا الحصر، أحد الأمثلة الأكثر وضوحًا على الدافع الطائفي لعمليات القتل التي طالت المدنيين، واستدلّت على ذلك منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية، من خلال استهداف القوات الموالية للنظام “السنة” على وجه الخصوص بشهادة سكان البيضا المسيحيين، وهو ما أدى في المحصلة بالسكان المحليين إلى ترك منازلهم وممتلكاتهم العقارية والنزوح نحو المجهول، فضلًا عما طال تلك الممتلكات من عمليات نهب وحرق وتخريب متعمّد.
وشكّل تصاعد التوترات الطائفية والعرقية في سوريا عقب ذلك، خاصة بمناطق “التماس” الطائفي والإثني والديني، بيئة مناسبة لدفع معظم أطراف النزاع إلى ارتكاب انتهاكات ذات أبعاد طائفية أو دينية أو قومية، انتهت بعمليات تشريد قسري لمجتمعات بأكملها.
في آب من عام 2013، نشرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريرًا آخر، تحدث هذه المرة عن انتهاكات قامت بها 20 جماعة معارضة مسلحة في ريف اللاذقية، ضد سكان قرى تقطنها أغلبية علوية، واستدلّت المنظمة بالدوافع الطائفية الواضحة من خلال عناصر عديدة، منها التعمّد بالإضرار بمقام علوي، وإخراج رفات الشخصية الدينية المدفونة في المقام، كما توصلت التحقيقات إلى توثيق مقتل ما لا يقل عن 200 علوي، وقد فُصل رأس العديد من الضحايا عن أجسادهم.
في جميع الحالات السابقة، ينطبق مبدأ “مسؤولية القيادة” على القادة العسكريين وغير العسكريين الذين قد يكونون عرضة للمسؤولية الجنائية عن الجرائم التي ترتكبها القوات الخاضعة لسيطرتهم الفعلية، سواء من طرف المعارضة أو النظام أو أي طرف آخر.
لاحقًا، وبحلول 18 من آذار 2018، تمكنت القوات التركية والفصائل السورية المعارضة التي تدعمها من السيطرة على منطقة عفرين، ورافقت ذلك جهود دولية لتوثيق الانتهاكات التي طالت سكان المنطقة، خاصة فيما يتعلق بقضايا “المسكن والأرض والممتلكات”، ويبدو أن أول التقارير التي وثقت انتهاكات متعلقة بهذا الشأن، كان في النشرة الشهرية لحقوق الإنسان الصادرة في حزيران من عام 2018 عن مكتب “المفوض السامي لحقوق الإنسان”، تحت عنوان “مدنيو شمال غربي سوريا.. بين المطرقة والسندان”، وتمت فيها الإشارة بشكل واضح إلى أن آلاف المقاتلين العرب بصحبة عائلاتهم إضافة إلى مهجرين آخرين من مناطق الغوطة الشرقية، أسكنتهم الجماعات المسلحة بشكل عشوائي في منازل تعود ملكيتها للكرد، مضيفة أن المفوضية تشعر ببالغ القلق حيال السماح للعرب باحتلال منازل الكرد الذين فروا نتيجة العنف، لأن ذلك سيمنع فعليًا عودتهم إلى ديارهم، الأمر الذي قد يكون محاولة لتغيير التكوين العرقي للمنطقة إلى الأبد.
في الشهر ذاته، أكدت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، في تقرير لها حول “الممتلكات في عفرين”، عمليات الاستيلاء على ممتلكات المدنيين الكرد في عفرين، بعد نهبها وتدميرها، مطالبة السلطات بالحفاظ على سجلات الأراضي.
وكانت منظمة العفو الدولية أولى المنظمات التي وصفت صراحة الوجود التركي في عفرين “كقوة احتلال عسكري”، وذلك في تقرير نشرته في آب من عام 2018، كاشفة مصادرة الفصائل الموالية لتركيا ممتلكات الأهالي، بما فيها المنازل والمحال التجارية، وداعية تركيا إلى تحمّل مسؤوليتها كقوة “احتلال”.
وكذلك أشارت “لجنة التحقيق الدولية المستقلّة حول سوريا” صراحة في أحد تقاريرها (A/HRC/39/65) إلى وجود أنماط “سياسية” من الاستيلاء على المنازل في عفرين وخاصة من مالكيها الكرد، تزامنًا مع منع أفراد الجماعات المسلحة العائدين من النازحين (السكان الأصليين) من استرداد منازلهم، مضيفة أن تلك الجماعات أسكنت عائلاتها في أماكن إقامة السكان الكرد الذي فروا نتيجة العملية العسكرية المسماة “غصن الزيتون”.
–