معتصم السيوفي
لم يحدث في تاريخ البشرية المعاصر أن اضطر نصف أبناء شعب ما للرحيل عن بيوتهم وقراهم ومدنهم تحت وطأة الحصار والعمليات العسكرية والخوف من الاعتقال والتنكيل، لا لشيء إلا لأن النظام السياسي اختار القمع بديلًا عن الحوار، والتمسك بالسلطة وحصار المدن والبلدات والحرب بديلًا عن الاستجابة للمطالب الشعبية المشروعة بالحرية والكرامة والتغيير السياسي، كما حصل في سوريا عقب ثورة آذار عام 2011، وللأسف الشديد قامت بعض الجهات العسكرية والسياسية الأخرى بأفعال مشابهة، وإن على نطاق أضيق، أدت إلى تهجير أعداد إضافية من السوريين عن مدنهم وقراهم.
إن للتهجير القسري آثارًا قانونية واقتصادية واجتماعية وسياسية، فاقمتها سياسات الأطراف المرتكبة للجريمة في العبث القانوني والديمغرافي لتحقيق مكاسب سياسية، الأمر الذي يهدد حقوق المهجرين المادية والمعنوية والسياسية، ويشكل عوائق وأخطارًا حقيقية على الحل السياسي والسلام المستدام المنشودين لهذا البلد.
فضلًا عن ذلك فإن فظاعة الجرائم المرتكبة بسوريا خلال العقد الماضي، واتساع نطاقها، واستعصاء الحلول السياسية بفعل مساندة قوى دولية وإقليمية لنظام الأسد، تجعل من مسار إحقاق العدالة للضحايا، بمن فيهم المهجرون، ومحاسبة الجناة مسارًا طويلًا وبالغ الصعوبة ويستوجب السير فيه أن ينظم الضحايا أنفسهم، وأن يكونوا في مركز قيادة هذه الجهود، وأن يلقوا دعم ومساعدة المدافعين عن حقوق الإنسان في سوريا والعالم.
بتخصيص الحديث عن المهجرين فإن تنظيمهم لأنفسهم ضمن روابط واتحادات طوعية يكتسب أهمية بالغة لمناصرة قضايا هامة والتصدي لمهمات أساسية هي:
- الدفاع عن حقوق الملكية للمهجرين في أماكن سكنهم التي غادروها: تكتسب هذه المهمة أهمية خاصة في ظل حزمة القوانين التي أصدرها النظام خلال السنوات الماضية وأبرزها القانون 10 لعام 2018، الذي هو تطوير لصيغة المرسوم 66 لعام 2012 بحيث يشمل كل سوريا ولا يقتصر على محافظة دمشق، والقانون رقم 3 لعام 2018 الخاص برفع الأنقاض. إن هذه القوانين مضافة إلى المشكلات المزمنة في القوانين العقارية وقوانين التطوير العمراني، وفي ظل انعدام استقلالية القضاء وتغوّل الأجهزة الأمنية وسيطرة أمراء الحرب على المفاصل الإدارية والاقتصادية في سوريا ستؤدي في حال دخولها حيز التطبيق بالمحصلة إلى الاستيلاء على الملكيات العقارية للمهجرين وبخاصة أولئك الذين نزحوا نحو مناطق خارج سيطرة النظام أو إلى خارج سوريا، وتغيير الطبيعة الديمغرافية للأحياء والمناطق التي هجروا منها. إن تنظيمات فاعلة ممثلة للمهجرين داخليًا وللاجئين السوريين يمكن أن تقوم بجهود مناصرة على المستوى العربي والدولي وعلى مستوى مؤسسات الأمم المتحدة وتلك المختصة برصد انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا وكذلك الجهات التي قد تلعب دورًا يومًا ما في جهود إعادة الإعمار ضد هذه القوانين والإجراءات لجهة أنها تسلب ملكياتهم وتتناقض مع قواعد القانون الدولي الحاكم لوضع الصراع في سوريا، فهذه القوانين تتناقض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مادة 12-17-25، ومع العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مادة 11، ومع العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية مادة 17 ومادة 26، ومبادئ الأمم المتحدة بشأن الإسكان واستعادة الممتلكات للاجئين والمشردين المقرة عام 2005 والمتعارف عليها باسم مبادئ بينيرو، وكذلك المبادئ التوجيهية بشأن التشريد الداخلي.
- العمل مع الهيئات الإغاثية والطبية والتعليمية من أجل تلبية الاحتياجات الإنسانية للمهجرين، وبخاصة ممن بقوا داخل سوريا، إذ إنهم يعانون ظروفًا إنسانية بالغة الصعوبة، فعلى سبيل المثال بينت دراسة مسحية قامت بها مؤسسة “اليوم التالي” نشرت في تشرين الأول 2018، وشملت 10 آلاف مهجرة ومهجر نحو شمال غرب سوريا، أن 71% من المهجرين المشمولين بالدراسة يعيشون في أبنية مستأجرة ما يعنيه ذلك من أعباء إضافية على كاهلهم في ظل ظروف اقتصادية صعبة، وإن أكثر من نصفهم يجدون صعوبة في تأمين الغذاء والمياه النظيفة، وحوالي 78% منهم يعانون من صعوبة في تأمين الوقود والمشتقات النفطية، و56% من العينة يعانون من صعوبة الحصول على الخدمات الطبية، و45% من العائلات لا تستطيع تأمين مستوى كافٍ من التعليم لأطفالها، و87% أفادوا بصعوبة وصولهم إلى الخدمات القانونية كتثبيت حالات الزواج والوفاة والولادة والحصول على الأوراق الشخصية، بسبب انقطاع خدمات مؤسسات الدولة في أماكن سكنهم الجديدة ومخاوفهم الأمنية من الذهاب لمناطق سيطرة النظام، وقد ازدادت هذه الأوضاع سوءًا بعد موجات النزوح التي سببتها العمليات العسكرية على ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي في السنوات اللاحقة. يحتاج المهجرون إلى هيئات تمثلهم لتعمل مع الجهات المعنية سواءً كانت مؤسسات أممية أم سورية من أجل زيادة الدعم الإنساني لتلبية هذه الاحتياجات.
- ضمان حق العودة الآمنة والطوعية والمشاركة السياسية: مع استمرار آلة النظام القمعية، وفي ظل الدمار الحاصل بمناطقهم والتشريعات التي تهدد ملكياتهم، فإن شروط العودة الآمنة والطوعية غير متوفرة، ويحتاج المهجرون إلى من يمثّل أصواتهم في دوائر التفاوض التي تسعى للوصول إلى حل سياسي للقضية السورية، وإلى دفع اللجنة الدستورية لإقرار ما يلزم من مبادئ ومضامين دستورية لضمان حق العودة الآمنة والطوعية لمن هجروا قسرًا، كما حصل في البوسنة التي شهدت تهجير ما يزيد على مليون ونصف مواطن بوسني حين أصرت الحكومة البوسنية على أن يكون حق النازحين في العودة جزءًا لا يتجزأ من اتفاقية السلام وبضمانات دولية كافية.
يواجه المهجرون أيضًا تحدي المشاركة في أي عملية استفتاء على الدستور المزمع صياغته من ضمن ترتيبات القرار (2245) وكذلك المشاركة في أية عملية انتخابية لاحقة، إذ ينص القانون السوري الحالي على أنه يحق للناخب الانتخاب في موطنه الانتخابي، وتعد شروط نقل الموطن الانتخابي شروطًا معقدة، ومن جهة أخرى يضع قانون الانتخابات الضوابط ليتمكن السوري من ممارسة حقه السياسي، إذ يتحدث قانون الانتخابات رقم 5 لعام 2014 على أن السجل الانتخابي العام يتم من خلال بيانات السجل المدني، وبالتالي فإن أي خلل بالسجل المدني سينعكس بخلل على السجل الانتخابي العام، وتوزيع الدوائر الانتخابية وتمثيلها، وبالتالي على نتائج الانتخابات، وقد بينا في الفقرة السابقة صعوبة حصول القسم الأكبر من المهجرين على الوثائق المدنية الضرورية
- محاسبة المنتهكين وإيقاف مفاعيل الجريمة: يصنف النزاع في سوريا على أنه نزاع مسلح غير دولي، وتعتبر جريمة التهجير القسري “جريمة حرب” وكذلك “جريمة ضد الإنسانية” وفق قواعد “القانون الدولي الجنائي”، وقد حصلت معظم عمليات التهجير ضمن هجمات ممنهجة واسعة النطاق تضمنت فرض حصار شديد على المناطق المدنية، وحرمان السكان من الاحتياجات الأساسية، وشن هجمات عسكرية عشوائية لتنتهي بتفاوض مع القوى المسلحة تحت ضغط هذه الظروف، وترحيل السكان المدنيين والعسكريين بشكل قسري بالمحصلة عن مناطقهم مخافة الانتقام بالقتل أو الاعتقال أو السوق للخدمة الإلزامية. لا شك أن العدالة الدولية ما تزال قاصرة عن محاسبة النظام السوري ومرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا على الجرائم المرتكبة نظرًا لعدم توقيع سوريا على بروتوكول “المحكمة الجنائية الدولية”، والفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن الذي يمنع إنشاء محكمة خاصة أو تحويل سوريا إلى “المحكمة الجنائية الدولية”، إلا أن المهجرين لديهم فرصة لا بأس بها، خاصة مع وصول العديد منهم إلى أوروبا، للسعي ضمن مسارات المحاسبة المتاحة سواء من خلال توثيق الجريمة أو الإسهام في فرض عقوبات على الأفراد والمؤسسات الضالعة بارتكاب جرائم التهجير القسري، والبحث مع المؤسسات الحقوقية الأوروبية عن إمكانية الاستفادة من “الولاية القضائية العالمية” التي توجد في عدد من الدول الأوربية لتحريك قضايا متعلقة بجرائم التهجير القسري. ومع دخول “قانون قيصر” حيز التنفيذ فإن نافذة أخرى تكون قد فتحت أمام تثبيت وقوع جرائم التهجير القسري وتسمية المنتهكين وعرقلة جهود “إعادة الإعمار” في المناطق التي شهدت تهجيرًا قسريًا، إذ ينص القانون في الفقرة 7413 على فرض عقوبات على أي جهات تنخرط بجهود لإعادة الإعمار في مناطق تقع تحت سيطرة الحكومة السورية أو روسيا أو إيران وشهدت تهجيرًا قسريًا لسكانها. إن هذه الجهود بالغة الأهمية، ولا يمكن أن تتم إلا بوجود تمثيل قوي وواسع للمهجرين سواء كانوا داخل سوريا أم خارجها، وتوفر دعم سياسي وحقوقي قوي من المؤسسات السورية السياسية والحقوقية ذات الصلة.
- الارتباط الثقافي بالموطن الأصلي ورفع وعي المهجرين بقضاياهم وحقوقهم: لا تقتصر آثار جريمة التهجير القسري على الاحتياجات والحقوق والمصالح المادية للمهجرين، إذ إنه أدى إلى تخلخل البنى الاجتماعية والنفسية والأسرية للمهجرين، وفاقم من ذلك صعوبة الأوضاع التي يكابدونها في أماكن سكنهم الجديدة. ومع طول زمن التهجير فإن أبناء وبنات المهجرين يكبرون بعيدًا عن مواطن سكنهم الأصلية، ويحملون في ذاكرتهم عنها صور الحصار والقصف والخوف والمعاناة والموت والدمار، ومع ابتعاد فرص الحل السياسي، وغياب الحالة الوطنية الجامعة للسوريين والتي يمكن أن تجسد وعي قضية تحررهم ونهضتهم وأملهم بالمستقبل، تزداد مخاطر ضعف الارتباط الوجداني لأبناء المهجرين بحقوقهم في موطنهم الأصلي، والبحث عن مواطن جديدة ليس فقط على الصعيد المادي وإنما على صعيد الانتماء الوجداني والثقافي. إضافة إلى ذلك، تعاني أعداد كبيرة من المهجرين من ضعف الوعي بالقضايا التي ذكرناها أعلاه ودورهم في الدفاع عن حقهم. إن هاتين المسألتين تشكلان سببين إضافيين لضرورة البحث عن أشكال لتمثيل وتنظيم المهجرين ضمن روابط وهيئات تعبر عن مجتمعاتهم وضميرهم الجمعي وترفع وعيهم بقضاياهم وتحاول تفعيل دورهم في الدفاع عنها.
بسبب طبيعة النظام السوري الإجرامية الاستبدادية، وضعف المعارضة، وتسلط الفصائل العسكرية على قضيتهم، يعاني المهجرون من غياب الحامل الوطني السوري لقضيتهم بما يشبه الدور الذي لعبته “منظمة التحرير الفلسطينية” التي شكلت الإطار الوطني الرسمي الممثل لعموم الشعب الفلسطيني واللاجئين على وجه التحديد والمدافع عن حقهم والموطن الوجداني لهم.
نحن نعيش اليوم بظل ظروف مختلفة يلعب فيها المجتمع المدني والحركات الاجتماعية أدوارًا هامة على الصعد السياسية والحقوقية والثقافية، في التعبير عن مصالح وحقوق وتطلعات الشرائح الاجتماعية المتنوعة، ولعل المهجرين السوريين هم من أكثر الشرائح التي تحتاج لمثل هذا التمثيل الفاعل الديناميكي المرتبط بهم والنابع منهم قبل كل شيء، والمرتبط بالأطر الوطنية الحقوقية وبقية تعبيرات المجتمع المدني السوري، والمتفاعل مع الأطر الحقوقية والسياسية الدولية التي يمكن لها أن تدعم تحسين أوضاع المهجرين وحصولهم على حقوقهم.
المهمة شاقة والطريق طويل لكنه يمكن أن يبدأ بخطوة.