معايير صناعية تخلق آثارًا نفسية..
فتيات سوريات تحت ضغط “الترف” في العالم الافتراضي
عنب بلدي – عالية كمال الدين
“كورونا خرب عليكِ السفر؟ نحنا خلص علينا الخبز والسكر.. دنيا!”، بهذا علّقت إحدى الفتيات داخل سوريا على منشور في إحدى المجموعات المخصصة للنساء عبر “فيس بوك” تشكو صاحبته من عدم قدرتها على السفر بسبب انتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).
تعيش الفتاتان (نتحفظ على نشر اسميهما لاعتبارات خصوصية المجموعة) في غرفة واحدة افتراضيًا، لكن لكلّ منهما حياتها المختلفة في الواقع، وظرفها الاقتصادي والاجتماعي، واهتماماتها، وهمومها تبعًا لظرفيهما المختلفين.
المجموعة التي تتفاعل فيها الفتاتان، تضم مئات أخريات داخل سوريا وخارجها، وتقوم على عرض المشتركات ملابسهن وأنماط حياتهن، بانتظار معلّقات أخريات، يبدين إعجابهن بوضع القلوب الحمراء وإشارات “أعجبني”، رغم أن حقيقة التفاعل قد لا تكون كذلك.
عنب بلدي سعت لتتبع ظاهرة استعراض أنماط الحياة بين الفتيات السوريات، عبر رصد خمس مجموعات متخصصة بذلك في “فيس بوك”، ومتابعة التفاعل داخلها، وأجرت استطلاعًا للرأي في إحداها لمعرفة مدى وطبيعة تأثر المستخدمات بما ينشر عبرها.
استعراض “الأفضل”
من المجموعات التي رصدتها عنب بلدي، واحدة تختص بعرض الملابس التي اقتنتها المشاركات، اللاتي يصل عددهن فيها إلى نصف مليون تقريبًا، وأخرى قائمة على عرض الوجبات التي تناولنها، وتشارك الفتيات في بقية المجموعات صورهن خلال المناسبات والأفراح، وجلسات التصوير الخاصة.
أغلب المنشورات تقدم محتوى يعكس مستوى معيشة الفتاة، الذي غالبًا ما يكون مريحًا اقتصاديًا، بينما لا تخلو التعليقات من التنمر والبغض والاستهزاء، وقد تصل أحيانًا إلى تمني زوال النعم عن صاحباتها.
أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي على إحدى المجموعات، التي تشارك فيها الفتيات صورهن الفوتوغرافية وتفاصيل مشترياتهن من أدوات التجميل والمجوهرات، تساءلت فيه عن مدى التأثير النفسي للاستعراض على منصات التواصل من وجهة نظر المتلقي.
شاركت في الاستطلاع 150 مستخدمة، ترى 90% منهن أن تأثير المجموعات قوي عليهن، بينما لا تتأثر الأخريات سلبًا بها، وقالت بعض المتفاعلات بالتعليقات على منشور الاستطلاع، إن التأثير يزداد وينقص بحسب حالتهن النفسية لحظة رؤية المنشورات.
صناعة المعايير
“هالعالم من وين عم تجيب مصاري لتطلع وتفوت وتشتري”، هذه أكثر جملة تسمعها فاطمة، وهي طالبة هندسة في جامعة “دمشق”، خلال يومها، وهي ذاتها الجملة التي كانت ترددها.
تحكي فاطمة (تحفظت على نشر اسها الكامل لأسباب شخصية) تجربتها لعنب بلدي مع مواقع التواصل الاجتماعي، إذ كانت تتأثر بشكل كبير ومضاعف، مع استعراض الفتيات سفر الطعام في العزائم بالمطاعم، وهو ما كان يزعجها، وتلمس أثره على نفسية الأشخاص من حولها، حين لا يكونون قادرين على مجاراة هذا الترف.
وعن الأثر الذي وصفته فاطمة يشرح الباحث الاجتماعي في مركز “أتلانتيك الأمريكي” محمد ديرانية، أن وسائل التواصل الاجتماعي تعزز خيالات الأفراد تجاه أنماط حياة الآخرين.
“فعندما يتابع ذوو الدخل المحدود حسابات ذوي الحياة الفاخرة، وما ينشرونه من تفاصيل يومية يظهرون فيها بهجتهم وسعادتهم، يربط الفقير مباشرة بين وضعه الاقتصادي المتردي وغنى الآخرين الطافح في الصور والذي يُظهرهم مستمتعين”.
وبذلك يحمّل الشخص الآخرين، بحسب ديرانية، وبشكل غير واعٍ، جزءًا من مسؤولية تردي وضعه، أو بقائه على ما هو عليه، ثم يتعزز هذا ويترسخ بمرور الوقت، “إلى أن ينحت معايير ثابتة للنجاح والسعادة في تصورات ونفوس ذوي الدخل المحدود، وهذه المعايير في جوهرها انعكاس لشعور عميق بالحرمان”.
ويشرح ديرانية أكثر، “بالتزامن مع الشعور العميق بالحرمان، يبدأ الفقير ينفر من كل ما يتصل بالبهجة والسعادة، كونها ترمز إلى نمط حياة يعيشها من يحملهم جزءًا من مسؤولية وضعه الاقتصادي والاجتماعي والنفسي المتردي”.
عقدة نقص تخلق عقدة نقص
في دراسة لجامعة “Humboldt-Universität“ الألمانية شملت 600 شخص من الذكور والإناث، قال ثلثهم تقريبًا إن وسائل التواصل الاجتماعي جعلتهم يشعرون بمشاعر سلبية (الإحباط بشكل رئيس)، وكان الحسد هو السبب الأهم لهذه المشاعر.
هذا الأثر، الذي قد يتسبب بـ”عقد نقص”، يمكن أن يكون المتسببون به أصحاب عقد نقص أخرى، يغطونها بنشر مظاهر مترفة، بحسب المختصة السورية في علم النفس فاطمة الشماط.
كما تمثل سلوكياتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي محاولة لإعطاء صورة معينة عن حياتهم للمتابعين “أنا مبسوط، بروح مشاوير، بلبس ماركات” وفق الشماط، ودلالة على الانتماء لطبقة معينة، تعتبر طبقة مميزة وراقية على مواقع التواصل الاجتماعي.
إضافة إلى الأسباب النفسية المتمثلة في محاولة الهروب من الواقع الحقيقي بصنع واقع افتراضي، هناك أسباب كثيرة يمكن أن تكون مَرَضية، كالإصابة بـ”الشخصية الهستيرية”، وهي أن تكون لدى الشخص رغبة دائمة وملحة بالحصول على الاهتمام من الآخرين، وأن يكون مركزًا للجذب، وفي حال وجد منافسين وشعر أن الأضواء اختفت عنه يشعر بضيق شديد.
استعراض وحرب يساوي اكتئاب
تقول المتخصصة فاطمة الشماط، إن استعراض أنماط الحياة المترفة قد يسبب أو يكون عاملًا مساعدًا في اضطرابات القلق بالنسبة للمتلقين، خاصة عندما يكون الشخص في منطقة حرب، ولا يملك أدنى مقومات الحياة، ويتابع هذا النوع من المنشورات، فيبدأ بالمقارنة بين حياته والحياة الافتراضية التي يتابعها، وهذا يولد عنده شعورًا بعدم الرضا وعدم الاستقرار النفسي، فتتضافر هذه العوامل، وقد توصله إلى الاكتئاب.
ومن الأمور المؤدية إلى انخفاض تقدير الذات، ربط القيمة الإنسانية لشخصه بالأمور المادية، فيعتقد أن “من يلبس الأزياء الغالية هو شخص مميز ذو قيمة، أما أنا فلا، وهذا بسبب ما يجده من المجتمع الذي يعزز هذه الفكرة، بدعمه للفاشونيستات والعارضات وغيرهم من أصحاب المحتوى الاستهلاكي”.
وتتسبب مواقع التواصل الاجتماعي لمستخدميها بشعور بعدم الاكتفاء، وفقًا لدراسة صدرت عن جمعية “Disability Charity Scope” الأمريكية، لمسح شمل 1500 شخص، قال الأشخاص الذين تراوحت أعمارهم بين 18 و34 عامًا، إن مواقع التواصل تشعرهم بعدم الجاذبية.
وأشارت دراسة أخرى أجراها باحثون في جامعة “Penn State University” عام 2016 إلى أن متابعة صور شخصية لأشخاص آخرين يقلل من تقدير المتابعين لذواتهم، لأن المستخدمين يقارنون أنفسهم بصور الأشخاص الذين يبدون أكثر سعادة وجمالًا.
حماية النفس من آثار مواقع التواصل
تصنع وسائل التواصل الاجتماعي مقارنات من العدم، ثقافية أو اجتماعية، عن الفقر والغنى، الطعام والسفر، وغير ذلك، بينما يخفي المستخدمون عيوبهم على حساب تصدير الإنجازات والقدرات.
سنا الشماط، طالبة الهندسة المعمارية في مدينة طرابزون التركية، قالت إنها لا تتأثر بما يُنشر في مواقع التواصل، بسبب “الرضا والتصالح مع النفس والواقع الذي تعيشه، وتمني السعادة والخير للجميع”.
وعلى حد تعبيرها، فإن الوعي بعدم وجود حياة مثالية وخالية من الهموم، يساعدها في تكوين ذلك الرضا، مشيرة إلى إجراء وقائي تقوم به كل فترة، وهو الانسحاب من مواقع التواصل، لأخذ استراحة “بعيدًا عن تفاصيل حياة الآخرين التي لا جدوى منها”.
ويشرح الباحث الاجتماعي محمد ديرانية عن أهمية ذلك الانسحاب، لافتًا إلى أن حالة الروتين والمراوحة المكانية للفرد، تؤدي إلى تكرر المشاعر والاضطرابات النفسية ذاتها.
ولأجل ذلك، يرى بوجوب كسر حلقة التكرار والخروج من دائرة الروتين، والتخفيف التدريجي من قضاء الوقت على وسائل التواصل، وانتقاء الصفحات التي يتابعها، والتركيز على الحياة الشخصية.
وأشار إلى أهمية العمل على بناء شخصية الذات وصقلها، وتنمية المهارات، وإدخال النفس في تجارب شعورية جديدة، وتوسيع دائرة العلاقات الاجتماعية، والاحتكاك بطبقات وشرائح مختلفة، والبحث عن فرص أفضل.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :