عنب بلدي – ناصح المنلا
يسعى القائد العام لـ”هيئة تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”، إلى تحصيل مكاسب ونفوذ بالتوازي مع التحولات في الملف السوري، خاصة بعد الاتفاق الروسي- التركي على وقف إطلاق النار في إدلب، في 5 من آذار الماضي.
وتطرح اعتقالات “تحرير الشام” لقادة الفصائل الرافضة للتفاهمات السياسية، ومن بينهم حلفاء لـ”الجولاني”، كثيرًا من الأسئلة، وتشير إلى محاولة احتكار وتوظيف ملف “الجهاديين” في سوريا.
ويرى الباحث في الشأن السوري عباس شريفة أن الوسائل التي اتبعها “الجولاني”، في اقتلاع خصومه وإزاحته لمنافسيه للتفرد بالسلطة، عديدة ومتنوعة.
مبررات قتال فصائل “الجيش الحر”
بدأ “الجولاني” قتاله لفصائل “الجيش الحر” في وقت مبكر من عمر العمل العسكري في سوريا، معتمدًا على الحشد الأيديولوجي لجنوده ضدهم، مبررًا ذلك بأنهم “كفار ويتعاملون مع الغرب ولا يطبقون الشريعة”، وهذا الخطاب “كان يقوده الغلاة من رجال الجولاني”، بحسب الباحث عباس شريفة.
كان قادة “تحرير الشام”، التي بدأت بمسمى “جبهة النصرة” كفرع لتنظيم “القاعدة” ثم فكت ارتباطها مع التنظيم وغيرت مسماها، يعتبرون قادة ومقاتلي “الجيش الحر” مجموعة من اللصوص والمفسدين وقطاع الطرق، من خلال التركيز على ممارسات جزئية وتضخيمها، وهذا الخطاب كان جاذبًا للحاضنة الشعبية، التي ترى في “النصرة” قوة تحقق العدالة وتقضي على المفسدين.
أما المبررات السياسية التي قدمها “الجولاني” للنخب المثقفة والمشايخ، فهي أن “التغلب” (الإجبار بالقوة) يعد الوسيلة الوحيدة لجمع الفصائل بعد فشل المبادرات بتوحيد الفصائل في كيان واحد، وأن قتال هذه الفصائل لتوحيدها بالقوة، هو مصلحة للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام لتعزيز صمودها وتوحيد قوتها.
ومنذ ولادة “النصرة” سابقًا حتى حزيران الماضي، قضت “الهيئة” على العديد من الفصائل المقاتلة، وهي “جبهة ثوار سوريا”، و”جبهة حق المقاتلة”، و”جبهة ثبات”، و”لواء أبو العلمين”، و”اللواء السابع قوات خاصة”، و”حركة حزم”، و”الفرقة 30″، و”جيش المجاهدين”، و”تجمع فاستقم”، و”كتائب ثوار الشام”، إضافة إلى تحجيم “حركة أحرار الشام”.
رفاق الأمس.. أعداء اليوم
استعمل “الجولاني” خطابًا مختلفًا في قتال الفصائل التي تنتمي إلى نفس المدرسة “الجهادية”، أمثال “جند الأقصى” و”حراس الدين”، إذ “اتهمهم بالغلو وشق الصف، والخروج عن القرار الموحد في الحرب والسلم، والإخلال بضبط الحالة الأمنية، بنصبهم الحواجز الخاصة بهم”.
واتهمهم أيضًا بضم عناصر من “تحرير الشام” لم يبرئوا ذممهم المالية أمام “الهيئة”، واحتج بأنه يمنع تعدد غرف العمليات.
وكانت “الهيئة” اعتقلت، في مطلع حزيران الماضي، القياديين في “حراس الدين” وغرفة عمليات “فاثبتوا”، “أبو صلاح الأوزبكي” و”أبو مالك التلي”، واندلعت إثر ذلك اشتباكات بين الفصيل و”الهيئة”.
وتعيد هذه المواجهات الذاكرة إلى معارك في ريفي حماة وإدلب، في شباط 2017، بين “هيئة تحرير الشام” وتنظيم “جند الأقصى”، إذ أعلنت “تحرير الشام” التوصل إلى اتفاق مع “جند الأقصى” يقضي بخروجه إلى الرقة.
لكن “الجولاني” لن يواجه صعوبة في حسم معركته ضد “حراس الدين” توازي صعوبة معركته ضد “جند الأقصى”، فالفارق كبير بين “حراس الدين” بعدده المحدود، وسلاحه الخفيف، وجهازه الأمني الضعيف، وعقيدته التي لا تقوم على فتح معركة مع الفصائل، وبين “جند الأقصى” بعدده الكبير، وعقيدته “الداعشية”، وسلاحه الثقيل، وقوته في العمل الأمني، واختراقه لصفوف “تحرير الشام”، وفق رؤية شريفة.
المنهج والخطاب.. من الجهادي العالمي إلى الثوري المحلي
مرّ منهج وخطاب الرجل الأربعيني (الجولاني) بتحولات عديدة، فكانت المرحلة الأولى من التحول بالقطيعة مع “القاعدة” تنظيمًا، مع البقاء على منهج “السلفية الجهادية” خطابًا، وهذه المرحلة كانت في فترة إعلان تنظيم ما يسمى “فتح الشام” بدلًا من “جبهة النصرة”، في 28 من كانون الثاني عام 2016.
وكانت المرحلة الثانية من التحول الخطابي بحسب شريفة، بالقطيعة الكاملة مع “القاعدة”، تنظيمًا ومنهجًا، وهي الفترة التي شُكلت فيها “هيئة تحرير الشام”، في 28 من كانون الثاني عام 2017، وضمت في تشكيلها كثيرًا من الكتائب والفصائل المحسوبة على فصائل “الجيش الحر”.
وظهرت هذه القطيعة بشكل واضح، بموقف هو الأول من نوعه لمواجهة علنية مع قيادة التنظيم، حين اتهم القيادي في “هيئة تحرير الشام” مظهر الويس، المعروف بـ”أبو عبد الرحمن”، والشرعي العام عبد الرحيم عطون، المعروف بـ ”أبو عبد الله الشامي”، القيادة العامة لتنظيم “القاعدة” بتبني رواية فرعه في سوريا، أي تنظيم “حراس الدين”، خلال الاشتباكات الأخيرة بين الطرفين في محافظة إدلب.
وكان الخضوع والرضوخ للتفاهمات الدولية والإقليمية هما سمة المرحلة الثالثة من التحول في منهج “الجولاني”، وهي المرحلة التي بدأت مع إدخال الجيش التركي في تشرين الأول من عام 2017، والتخلص من الأصوات المتشددة داخل “الهيئة”، مثل “أبو شعيب المصري” و”أبو اليقظان المصري” و”أبو العبد أشداء” وغيرهم، بحسب شريفة.
وظهر ذلك بعد رفض “أبو اليقظان” الالتزام بضوابط التنظيم الإعلامية التي تضعها القيادة ومجلسها الشرعي، فكانت إدانته وإنذاره ابتداء، واستقالته انتهاء.
عوامل تماسك “الجولاني”
أدرك “الجولاني” أن تفرده بالسلطة لن يحصل إلا بعد قبول الدول المؤثرة به، وتحوله إلى شريك لهم في إرساء الاستقرار، ولن يُتعامل معه دوليًا إلا إذا رُفع من قائمة التصنيف الدولي للإرهاب، بحسب شريفة.
ونفذ “الجولاني” خطوات عديدة في سبيل ظهور معتدل، إذ دفع بحكومة مدنية إلى الواجهة (حكومة الإنقاذ)، ورفع علم الثورة، وفك الارتباط بتنظيم “القاعدة”، وتخلص من كل القيادات المحسوبة على التنظيم.
كما حارب التنظيمات المصنفة على قوائم الإرهاب، مثل “جند الأقصى” و “حراس الدين”، وهما فصيلان كانا حليفين لـ”تحرير الشام” ورأس حربة في قتال فصائل “الجيش الحر”.
ودخل في التفاهمات الدولية وطبّق مخرجات “أستانة”، وسمح بدخول الجيش التركي وحمى أرتاله.
وزاد “الجولاني”، وهو طالب سابق في كلية الإعلام بجامعة دمشق قبل عام2003 ، من تواصله مع وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وعمد إلى تصدير خطاب جديد يتبنى فيه الثورة السورية، ويبتعد عن خطاب “السلفية الجهادية”، ويؤكد على “الجهاد المحلي” ومقاومة النظام فقط.
والآن، بحسب شريفة، “تحرير الشام” تنظيم براغماتي مصلحي لا يحتاج إلى موازنة خطابه مع العناصر “المتشددين” في صفوفه، إذ لم يعد لهم تأثير يذكر.
وحقق “الجولاني” كثيرًا من المكاسب من هذا التحول، فما زال يسيطر على إدلب، كما جنب تنظيمه حربًا دولية، وأصبح المبعوث الأمريكي إلى سوريا، جميس جيفري، يثني على سلوك “تحرير الشام”.
وفي أواخر كانون الثاني الماضي، صرح جيفري أن “تحرير الشام تركز على قتال قوات النظام، ولم يشهد لها تهديدًا على المستوى الدولي”، وقال في مؤتمر صحفي، إن “تحرير الشام تعرّف عن نفسها أنها تمثل معارضة وطنية تضم مقاتلين وليس إرهابيين، لكن أمريكا لم تقبل بهذا التوصيف بعد”.
واعتبر الباحث في الشأن العسكري السوري أحمد أبازيد، في حديث إلى عنب بلدي، أنه على الرغم من تخلي “الجولاني” عن الشعارات “الجهادية”، وفقدان مصداقيته، ومزاودته على الفصائل، وارتكابه أكثر مما اتهم الفصائل به وقاتلهم على أساسه، إلا أنه استطاع أن يتماسك ويصمد.
وعزا أبازيد السبب الرئيس لتماسك “الجولاني” في الداخل إلى الدور التنظيمي والقيادي القوي أكثر مما يكون لسبب أيديولوجي، إضافة إلى سبب اقتصادي يتمثل بسيطرة “الجولاني” على شبكة اقتصادية واسعة في إدلب، من خلال إدارة المعابر وطرق التهريب وتجارة المحروقات، وهذا يوفر دخلًا كبيرًا للفصيل، هذا دون الحديث عن سلب مستودعات الفصائل الأخرى، والخطف الذي تشرف عليه مجموعات من “الهيئة” عليه.
وأضاف أبازيد أن ضعف المنافسين وتفرقهم كان سببًا لتماسك “الجولاني”، فكان ينفرد بكل فصيل على حدة، دون مؤازرة من بقية الفصائل.
وحول مستقبل “الجولاني” يرى مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية“، في دراسة نشرها، في 27 من حزيران الماضي، أنه على الرغم مما يوحي به استثمار “هيئة تحرير الشام” في الملفات “الجهادية”، والإدارية، والأمنية، والاقتصادية من قوة وقدرة، فإنه وبالوقت ذاته يعكس في عمقه حالة من التخبط والضعف، خاصة أنه يأتي في سياق تحولات تنظيمية تكتيكية لا تمت بأي صلة للأيديولوجيا ومراجعاتها.
وضمن سياق رهانات مستقبلية غير مضمونة النتائج، ففي الوقت الذي تحقق فيه “تحرير الشام” مكاسب شكليّة، إلا أنها وخلال تلك التحولات تفقد بعض أوراقها تدريجيًا.