أسامة آغي
يمكن القول إن التشدّد السياسي الديني لا يعيش خارج منظومة الخلخلة الأمنية، فهذه الخلخلة تمنحه قوة ومبرر وجود، ولعل ما يحدث بالصراع الداخلي في إدلب بين القوى المتشددة، إنما يمكن قراءته ضمن هذا السياق، وتحديدًا مع وجود اتفاق دولي على إغلاق ملف القوى المتطرفة في سوريا، كحلقة أساسية يمرّ بها الحل السياسي القادم.
لقد صنفت المنظومة الدولية، وعبر قرارات من مجلس الأمن، مجموعة من المنظمات الدينية “المتشدّدة” ضمن قائمة “منظمات إرهابية”، وهذه المنظمات ذات جذور تنحدر من تنظيم “القاعدة” الدولي، الذي أسّسه أسامة بن لادن، ويقوده حاليًا أيمن الظواهري.
هذه المنظمات “المتشددة”، وجدت نفسها بمواجهة اتفاقات “سوتشي” الموقّعة بين تركيا وروسيا عام 2018، واتفاق 5 من آذار الماضي في روسيا، والتي تنصّ على تفكيك هذه المنظمات ضمن منطقة “خفض التصعيد” الرابعة، التي تقع تحت ضمانة تركيا.
تفكيك التنظيمات “المتشددة”، يرتبط بالضرورة بالحركة على الطريقين “M4″ و”M5” اللذين يعتبران طريقين حيويين لربط مناطق متعددة تقع عليهما، وكذلك يرتبط بالحل السياسي النهائي للصراع في سوريا، وبما أن التنظيمات “المتشددة” رفضت اتفاق “سوتشي”، فهي كانت تدرك أن الموافقة على هذه الاتفاقية يعني تفكيك وجودها وزوالها، وخسارة مشروعها “المتشدد” المتمثل بإقامة “خلافة إسلامية”.
الصراع العسكري الحالي بين “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقًا) ومنظمات منضوية تحت مسمى “تنسيقيات التشدّد” رغم محدوديته، يكشف عن فروق فكرية سياسية جوهرية بينهما، فـ”هيئة تحرير الشام” باتت أكثر اقترابًا من التحول السياسي في بنيتها الحالية، وقد تقترب في مرحلة قريبة إلى تفكيك بنيتها العسكرية، من خلال الاندماج مع قوات “الجيش الوطني”، التابع لـ”الحكومة المؤقتة”، المنبثقة عن “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”.
بينما ترفض “تنسيقيات التشدّد” تفكيك نفسها، أو القبول بـ”سوتشي” وملحقاته. هذه التنظيمات التابعة لغرفة عمليات “فاثبتوا” تدرك أن زمن نهايتها يقترب، ولهذا فهي تحاول ما استطاعت المحافظة على نفوذها في محافظة إدلب، وتخريب أي اتفاق قد يؤدي إلى هذا التفكيك.
ولكن كان لا بدّ من شرارة لهذا الاقتتال المحدود بين أبناء الجذر الفكري/ السياسي الواحد سابقًا، فكل هذه التنظيمات بما فيها “جبهة النصرة” كانت تنتمي لتنظيم “القاعدة”، إلا أن “هيئة تحرير الشام” فكّت كما تدعي ارتباطها بـ”القاعدة” نهاية شباط عام 2018.
لكنّ بقية التشكيلات العسكرية “المتشددة” (تنسيقية الجهاد، ولواء المقاتلين الأنصار، وحرّاس الدين، وأنصار الإسلام، وأنصار الدين) أنشأت غرفة عمليات واحدة، في 12 من حزيران الحالي، تحت اسم “فاثبتوا”.
إنّ الهدف من تشكيل هذه الغرفة هو المحافظة على الجسم التنظيمي للمنظمات “المتشددة”، إضافة إلى تحويل هذه الغرفة إلى نقطة استقطاب لقواعد “هيئة تحرير الشام”، على أرضية رفض اتفاق تركيا مع روسيا في سوتشي وموسكو.
اتفاق “سوتشي” وتعديلاته اللاحقة غايته الرئيسة تفكيك المنظمات “المتشددة”، ولعل “هيئة تحرير الشام” تعرف البعد الاستراتيجي لهذا الاتفاق، وتحاول التكيّف معه تدريجيًا، وهو ما يعني تحول “الهيئة” من صيغتها العسكرية والسياسية الحالية إلى صيغة أكثر واقعية، وأكثر قبولًا بما يريده الضامن التركي.
لذلك لجأت “هيئة تحرير الشام” إلى توجيه ضربة استباقية لغرفة عمليات “فاثبتوا”، هذه الضربة تمثّلت باعتقال “أبو مالك التلي” و”أبو صلاح الأوزبكي”، وكلاهما من المتشددين الرافضين للتفاهمات والاتفاقات الروسية- التركية بشأن إدلب.
إن مقتل “أبو القسام الأردني”، نتيجة ضربة نفذتها طائرات “درون” تابعة للتحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، مع الاعتقالين السابقين لقائدين “متشددين”، لا يمكن فهمه بغير خوف “هيئة تحرير الشام” من حدوث استقطاب لـ”المتشددين” في قواعدها، وهذا يعني انزلاق تنظيم “الجولاني” إلى مربع التفكك، ما يفقده كل الامتيازات التي حققها سابقًا كتنظيم.
هذا الخوف عبّر عنه بيان صادر عن “هيئة تحرير الشام”، يمنع انفصال أي عنصر من عناصرها من دون موافقة الهيئة العليا للتنظيم.
ولكن، ما حدود هذا الصراع بين المنظمات “المتشددة”؟ ومن يدفع به إلى حدّ الصدام والقتال، وما مآله؟
إن الجواب عن هذه الأسئلة لا يخرج عن السياق العام للوضع السوري بتناقضاته القائمة، التي تدفع بها قوى الصراع المنخرطة بالملف السوري، إقليميًا ودوليًا، هذه القوى صارت تبحث عن معادل سياسي جديد مقبول بحدّه الأدنى من هذه القوى، ولكن يبدو أن أكبر المتضررين من سريان فعالية اتفاق “سوتشي” وتفاهم آذار بين الأتراك والروس سيكون التنظيمات المنضوية ضمن غرفة عمليات “فاثبتوا”.
هذه التنظيمات لا يناسبها تنفيذ الاتفاقات، وبالتالي هي لا تستطيع تبرير وجودها خارج الصراعات، وهو ما يجعلها ترفض كل الاتفاقات، حتى لو أدّت إلى حل سياسي بموجب القرار الدولي رقم 2254.
هذه الحالة تتطلب سياسة ذكية تنفذها تركيا بالتوافق مع “هيئة تحرير الشام”، ونقصد بذلك تجنيب إدلب وزر قتال حياة أو موت، ستضطر لخوضه التنظيمات “المتشددة”، وهو سيكون قتالًا مكلفًا للسكان وللاستقرار في هذه المنطقة، وهو ما تبحث عنه روسيا وحلفها.
وبالمقابل، يمكن إحداث اختراقات في بنية قيادة هذه التنظيمات، وترك الأبواب مفتوحة بصورة مواربة، لاحتمال اتفاق يؤدي إلى فكفكة هذه التنظيمات، ونزع حجة روسيا والمجتمع الدولي، التي تقول بضرورة القضاء على المنظمات “الإرهابية” في إدلب.
إن الصراع بين “هيئة تحرير الشام” وتنظيمات غرفة عمليات “فاثبتوا” هو صراع بين اتجاهين سياسيين مختلفين بزاوية رؤية، قد تتطور إلى زاوية تناقض وصراع أكبر، وهذا قد يشمل إشاعة الفوضى من عمليات تفجير واستدراج للروس عبر ضربات تتلقاها قوتهم العسكرية، أو من خلال عمليات اغتيال متبادلة بين “هيئة تحرير الشام” وهذه التنظيمات.
إن الانتقال من مرحلة التنظيمات “المتشددة” إلى مرحلة الحل السياسي، وفق قواعد تتفق عليها مجموعة القوى الدولية، لا ينبغي أن يكون خارج حسابات حياة المدنيين وممتلكاتهم وأمن المنطقة، لا سيّما أنها منطقة حدودية بين سوريا وتركيا، وتدرك تركيا أن الفوضى الناتجة عن صراع عسكري بين “هيئة تحرير الشام” وهذه التنظيمات “المتشددة” ستسيء لأمنها القومي وهو ما لا تسمح به أنقرة.