شرق الفرات.. توافقات الوحدة أو التمزق

tag icon ع ع ع

أسامة آغي

الثورة السورية التي تفجّرت في منتصف آذار عام 2011، كانت تريد إحداث تغيير سياسي في بنية نظام الحكم في البلاد، من حالة الاستبداد الشديد، إلى دولة المواطنة، وقد هتف المتظاهرون بملء حناجرهم بشعارات ومطالب الحرية والديمقراطية والمساواة.

النظام الاستبدادي في البلاد، الذي استخدم القوّة المفرطة لسحق الثورة، اعتقادًا منه أنه سينهيها خلال فترة قصيرة، كان في الوقت ذاته يسهم بخلخلة الأمن الوطني، وضرب الروابط بين المناطق السورية، ما شجّع بعض القوى ذات الاتجاهات الفكرية المتطرفة، من المكونات الوطنية الكبرى، على طرح مشاريعها، سواء السياسية ذات الاتجاه الأيديولوجي، أو الإثني، أو الطائفي.

هذه الحالة، دفعت حزب “الاتحاد الديمقراطي”، الذي يتم اختصار تسميته بـ”PYD”، إلى طرح مشروعه السياسي، المسمّى “الإدارة الذاتية الديمقراطية” في منطقة شرق الفرات، في حين كانت أغلبية الأحزاب الكردية تأتلف بإطار تحالفي تحت اسم “المجلس الوطني الكردي”، وتحت برنامج يدعو إلى نظام سياسي فدرالي.

الصراع السياسي في منطقة شمال شرقي سوريا (محافظة الحسكة) بين التكوينين السياسيين الكرديين، وصل في مرحلة من مراحله إلى محاولة “PYD” تصفية معارضيه الكرد، من منطلق فرض مفهوم “الإدارة الذاتية الديمقراطية” على بقية القوى في المنطقة، أو في المعارضة السورية، ووصل إلى مرحلة التغيير الديموغرافي بالبنية السكانية في منطقة الجزيرة السورية.

هذه الحال التي تعيشها التنظيمات الكردية السورية، لم تشد من أزر النضال التحرري الوطني على قاعدة تفكيك الاستبداد، والعمل على بناء دولة مواطنة ذات واقعية ممكنة.

وفي الوقت ذاته، لم تستطع قوى المعارضة أن تتبنى بتوافق وطني عريض رؤية سياسية لنظام الحكم ما بعد تفكك نظام الاستبداد، يلحظ حقوق جميع المكونات السورية عبر مفهوم دولة مواطنة صريح، وهو خلل سياسي تتحمله قيادات المعارضة، التي التحقت جزرها المتعددة بأجندات إقليمية ودولية، أضعفت روابط الحوار الوطني، وإمكانية خلق قاعدة تفاهمات بين كل المكونات السورية المختلفة.

في ظلّ هذه الحالة، وبضغط علني أمريكي، ذهب التكوينان السياسيان الكرديان إلى مفاوضات لتوحيد مكونيهما، ليصير للكرد تمثيل سياسي عام، مهمته التعبير عن المكون الكردي السوري، وهو مكون وطني أصيل لا تزيد نسبته السكانية في عموم البلاد على 10% وفق تقديرات الأمم المتحدة عام 2017.

لذلك، لا يمكن الطعن بحق التكوينين الكرديين السوريين في التفاوض والاتفاق على تمثيل موحد لهما، ولكن هذا التمثيل لا ينبغي أن يتشكل أو يتكون على أرضية التعارض مع المسألة الوطنية السورية.

ونقصد بالتعارض مع المسألة الوطنية السورية، أن يشكّل هذا التمثيل الموحد قاعدة لترسيخ وفرض “فدرلة سياسية”، تخدم تجزئة البلاد، من منطلق إثني حالم بدولة قومية، لا تتوفر شروط دولية أو إقليمية في إنجازها.

هذا يعني أن التوافق بين المكونين السوريين، الذي أتى بضغوط أمريكية، سيجد نفسه لاحقًا في صراعات محلية وإقليمية، يدركها هذان المكونان، ويدركان خطرها على وجود المكون الكردي في سوريا، تحت شعارات تدغدغ أحلامًا قومية، لا يمكن تحقيقها في ظل التوازنات الحالية بالمنطقة.

بصورة أوضح، لماذا تنجرّ النخب الفكرية والثقافية الكردية في سوريا إلى خيار الحلم على حساب خيار الواقع الممكن؟

هذا الخيار، الذي يتم تجنيد حملات سياسية وإعلامية خدمة للوصول إلى ضفاف له، نسيت هذه النخب أنه ارتبط بمرحلة سياسية سابقة، وهو محمول فكري كردي، طرحته قيادة كردية في شمالي العراق، تحت قيادة الملا مصطفى البرزاني، الذي كان يمثّل في تلك اللحظة التاريخية ذهنية قبلية عشائرية أكثر مما يمثّل ذهنية تقرأ الواقع باعتباره درجة من درجات التطور في البنى الاجتماعية، وأن لهذه البنى مطالب وشروط تحقق تختلف نتيجة هذا التطور.

وفق هذه الرؤية، ليس من حق المكونات السورية عمومًا، والعربية منها خصوصًا، أن تنكر على المكون الكردي السوري حقه في تشكيل تمثيل موحد له، استجابة لاحتمالات التطورات السياسية المقبلة، ومنها صياغة دستور وطني للبلاد، تقود عملية صياغته الأمم المتحدة عبر وسيطها الدولي، غير بيدرسون.

ولكن من جهة أخرى، يحق للمكونات السورية المختلفة، وفي مقدمتها المكون العربي الأكبر، التوجس من الوحدة السياسية الكردية في ظل غموض سياسي حقيقي لأهداف هذا التمثيل الجديد، فالسوريون لا يريدون أن يشكل التمثيل الكردي خطرًا على وحدة النسيج الوطني في البلاد، فالأكراد السوريون لن يستطيعوا مواجهة تهديد إقليمي، تمثّله أولًا تركيا، التي تتشارك مع جغرافية هذه المنطقة بحدود تزيد على 400 كيلومتر.

الأمريكيون يحوّلون الاتفاق بين تمثيلات الكرد السوريين إلى أداة لمآرب سياسية لهم، تخدم أهدافًا في صراعاتهم المقبلة في المنطقة أو في خارجها، ولهذا، كان على التمثيلات الكردية السورية أن تعلن أن هدفها السياسي من هذا التوحد هو الإسهام ببناء سوريا الجديدة، وليس بفرض مفهوم الفدرلة، أو فرض مفهوم الإدارة الذاتية الديمقراطية في هذه المنطقة السورية، كي يزيلوا أي شكوك لدى بقية المكونات السورية الأخرى، وتحديدًا المكون العربي، وهو الذي يشكل نسبة تزيد على 85% من مجموع سكان البلاد.

لقد صار من الواضح أن تقاعس وإهمال الدول الكبرى لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، سيساعد على تقسيم سوريا بصورة مؤقتة إلى ثلاثة أقسام، هي منطقة نفوذ أمريكي شرق الفرات بمساعدة الذراع الكردية لحزب “PYD”، وبموافقة أحزاب “المجلس الوطني الكردي”.

ومنطقة نفوذ تركي، عبر قوات “الجيش الوطني” التابع لـ”الحكومة المؤقتة”، المنبثقة عن “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة”، وهو حليف الدولة التركية، في منطقة “غصن الزيتون” و”درع الفرات” و”نبع السلام”، إضافة إلى محافظة إدلب.

أما القسم الثالث فهو الذي يخضع لسلطة النظام السوري شكليًا، وسلطة الاحتلال الروسي فعليًا، والمتمثل ببقية الجغرافيا السورية، حيث سيخرج الإيرانيون من هذه الجغرافيا.

انقياد التمثيلات السياسية الكردية لهذا السيناريو، وعجز المعارضة السورية عن قيادة السوريين وفرض أجندة وطنية، والركون إلى جهد الدول الكبرى، سيقود بالضرورة إلى فدرلة البلاد، وهذا سيشكل قنبلة، تتفجر من جديد، بسبب رفض تركيا إنشاء كيان كردي على الحدود مع سوريا تحت أي مسمى.

إن هذا الخطر القادم من السلوك السياسي الضيّق لكل اللاعبين السياسيين السوريين، سيبقي سوريا رهينة النزاعات وعدم الاستقرار الوطني، وهذا يتطلب إعادة إنتاج رؤية وطنية حقيقية، عجزت القوى الحالية عن إنجازها، وهو أمر يتطلب إيجاد مخرج له، من خلال مؤتمر وطني سوري حقيقي، يشكل مرجعية وطنية، تنهي “السيرك” السياسي الحالي في الصراع السوري.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.





×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة