حسام موصللي
في وقت قريب، وفي 17 من حزيران الحالي تحديدًا، يدخل “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا لعام 2019” حيز التنفيذ، وذلك بعد قرابة ست سنوات من المفاوضات والتعديلات والتعطيلات.
وتزامنًا مع اقتراب هذا الموعد، شهدت قيمة الليرة السورية انهيارًا غير مسبوق أمام الدولار الأمريكي لتتجاوز عتبة 3500 ليرة سورية للدولار الواحد قبل أن تتحسّن إلى قرابة 2200- 2500 ليرة مقابل الدولار (حتى لحظة كتابة هذه المقالة).
ثم جاء تصريح المبعوث الأمريكي إلى سوريا، جيمس جيفري، بأن هذا الانهيار “يعزى إلى ما اتخذته الولايات المتحدة من إجراءات”. فُهم من كلام الرجل أنه يقول إن ما حدث ليس سوى أثر طفيف لقانون “قيصر” الذي لم يدخل حيز التنفيذ بعد، فكيف ستكون الحال إذًا إبان تنفيذه؟!
في الواقع، لا أعتقد أن جيفري أخطأ في قوله أو مقصده، وكنا قد شهدنا في الأشهر القليلة الماضية مؤشرات عديدة عالية الوتيرة توحي بهذا الانهيار المتوقع داخل ما يُعتقد أنه نواة النظام المالي والاقتصادي لعائلة الأسد، وعلى نحو لا يقل منطقية عن هذا الانهيار، خرجت مظاهرات غاضبة في مدن وبلدات سورية عديدة، بشعارات السيرة الأولى التي تطالب بإسقاط النظام ورحيل الأسد، احتجاجًا على تردي الأوضاع المعيشية التي لم تكن تطاق في الأصل قبل إقرار القانون نفسه، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن موجة من الاحتجاجات المشابهة كانت اندلعت في مطلع العام الحالي ردًا على انهيارات سابقة، أقل حدة، في قيمة الليرة، وانعكاسات ذلك على الوضع الكارثي للسوريين عمومًا، وفي مناطق سيطرة النظام بصفة خاصة.
من الطبيعي أن يفضي كل ما سبق إلى انقسام حاد جديد في وجهات النظر، ما بين مرحب بالقانون ومتفائل بأنه سيكون الشعرة التي تقصم ظهر البعير (والبعير هنا ليس الليرة السورية وإنما نظام بشار الأسد) من جهة، ووجهة نظر معاكسة تمامًا من جهة أخرى، ترى أن قانون “قيصر” إنما يعد السوريين بصنف جحيمي جديد ومختلف عما ذاقوه من عذابات خلال قرابة عقد من الزمن، صنف لا يقل ضراوة حسب وصف كثيرين عن العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق إبان غزو الأخير للكويت وحتى الغزو الأمريكي للعراق نفسه.
كانت هذه المقارنة أكثر ما شد انتباهي من مقاربات لفهم قانون “قيصر” وما يتوقع منه، فبالإضافة إلى المشهد الإنساني الكارثي الذي يرتبط بذاكرة معاصري حصار العراق، فإن من شأن هذه المقاربة أيضًا أن تفتح بابًا عريضًا لأسئلة غزيرة من قبيل: هل سيطاح بنظام الأسد عما قريب؟ هل ستمتد معاناة السوريين عقدًا آخر على الأقل؟ هل سنشهد تدخلًا عسكريًَّا يبدأ بإزاحة رأس النظام، ثم يعلن بداية فصل جديد من معاناة مستمرة على الطريقة العراقية؟ ثمة مجموعة لا حصر لها من هذه الأسئلة، فضلًا عن تفصيلات تتعلق بالوضع الراهن على أصعدة مختلفة، وتختلف ما بين كل منطقة جغرافية في البلاد بحسب من يسيطر عليها اليوم.
إن هذه المقالة تحاول مقاربة مفاعيل قانون “قيصر”، من خلال مقارنة الأخير بنظام العقوبات الذي فرضه مجلس الأمن على العراق. وعلى الرغم من تباين الأسباب المعلنة وراء الحالتين السورية والعراقية، فإن ثمة العديد من المشتركات التي يمكن الاعتماد عليها، على غرار الدور الأمريكي المحوري في فرض هذه العقوبات، وتوصيف الأخيرة بأنها “اقتصادية”، بالإضافة إلى الشبه الكبير ما بين الأوضاع في كل من سوريا 2020، وعراق 1991.
موقف الولايات المتّحدة الأمريكيّة
ثمة جدال بصدد أن الأمريكيين لم يشترطوا في قانون “قيصر” إسقاط النظام أو رحيل الأسد مقابل رفع العقوبات.
بداية، هذا بديهي وفقًا لأبسط قواعد القانون الدولي بالمناسبة، ولم يحدث عكس ذلك من قبل، في الحالتين السورية أو العراقية، على صعيد نصوص القرارات، لكن في المقابل، من شأن الشروط التي تحدَّد عادة لرفع العقوبات أن تفضي ضمنيًا إلى هذه النتيجة (نظريًا على الأقل)، وإن كانت التجربة العراقية خير مثال على فشل ذلك، ما اضطر إدارة بوش الابن في نهاية المطاف إلى اللجوء لخيار التدخل العسكري، وسنتوسع في هذه المسألة لاحقًا.
منذ عام 2011، أكد الأمريكيون مرارًا وتكرارًا أنه ليست لديهم أي نية للتدخل عسكريًا في سوريا ضد نظام الأسد، وينطبق الأمر نفسه على شركائهم أيضًا، لدرجة أن كلًا من الأمين العام الحالي لحلف “الناتو”، ينس ستولتنبرغ، وسلفه أندرس فوغ راسموسن، قد تحولا في نظر العديد من السوريين إلى ببغاوين لا عمل لهما سوى تكرار “استبعادهما أي تدخل عسكري في سوريا” سواء أكان ذلك بمناسبة أم من دون مناسبة.
في الحالة العراقية، كانت الوقائع تشير إلى النقيض تمامًا، إذ دأبت الإدارات المتعاقبة للولايات المتحدة على التمسك بموقف يمكن وصفه بالعدوانية في أفضل الأحوال تجاه نظام صدام حسين، وكثيرًا ما عبرت علانية على لسان أعلى المستويات في إدارة البلاد عن رغبتها في تغييره.
وهنا أشير إلى عينة قليلة من تصريحات رفيعة المستوى توضح الدافع الأمريكي وراء دعم نظام العقوبات ضد العراق: البداية منذ أواسط عام 1991 نفسه، وذلك عندما قال جورج بوش الأب خلال مؤتمر صحفي جمعه بالمستشار الألماني، هلموت كول، إنه “لا رغبة لدينا برفع العقوبات طالما أن صدام حسين لا يزال في السلطة”.
ثم حافظت إدارة خلفه، بيل كلينتون، على الموقف نفسه، لدرجة أن مادلين أولبرايت أكدت في أول خطاب لها إبان توليها منصب وزيرة الخارجية عام 1997، “عدم موافقة الإدارة الأمريكية على ما تطرحه بعض الدول بصدد رفع العقوبات عن العراق في حال امتثاله بالتزاماته المتعلقة ببرامج أسلحة الدمار الشامل”، (كان ذلك في معرض الرد على محاولات حثيثة لكل من روسيا وفرنسا لتطبيع العلاقة مع نظام صدام حسين).
بعد ذلك بسنة واحدة، صدر قانون “تحرير العراق” الذي نص القسم الثالث منه صراحة على أنه “ينبغي أن تكون سياسة الولايات المتحدة دعم الجهود الرامية إلى إزالة النظام الذي يترأسه صدام حسين”. وأخيرًا، بلغت حدّة الموقف الأمريكي ذروتها مع مجيء جورج بوش الابن بطبيعة الحال، حيث صرح وزير خارجيته، كولن باول، خلال مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز” الأمريكية في أوائل عام 2002، أي قبل سنة من الغزو، بأن “العقوبات وما تشكله من ضغوطات إنما هي جزء من استراتيجية لتغيير النظام، ودعم المعارضة، والبحث في خيارات إضافية قد تكون ذات طبيعة أحادية أو جماعية”.
وقد حدث أن شن الأمريكيون ضد العراق عمليات عسكرية عديدة ومعروفة خلال فترة الحصار، ناهيك عن مناطق الحظر الجوي التي فُرضت على شمالي العراق وجنوبه منذ سنة 1991 حتى سنة 2003 بقيادة كل من الولايات المتحدة وبريطانيا (شاركت دول أخرى من بينها فرنسا، قبل أن تنسحب الأخيرة في أواسط التسعينيات).
على النقيض من ذلك، قوبلت طلبات ومناشدات لا تعد ولا تحصى بمناطق مماثلة تحمي السوريين من طيران الأسد بالرفض والتسويف والمماطلة من قبل باراك أوباما، قبل أن تتدخل روسيا بطيرانها، مضيفة مزيدًا من التعقيد إلى إمكانية تغيير المشهد، ولينعكس ذلك في المحصلة بصورة أعداد مخيفة من الضحايا ما بين قتلى ونازحين ولاجئين، فضلًا عن دمار رهيب في البنى التحتية، وكل ذلك كان يمكن تجنبه من خلال تفعيل مناطق حظر جوي.
من الجدير بالذكر هنا أن المسودة الأولى لقانون “قيصر” في سنة 2016 كانت تتضمن دراسة مقترح إنشاء مناطق حظر جوي فوق سوريا، وعلى الرغم من أن هذه الفقرة حُذفت من النص النهائي للقانون 2019، فإنها لا تزال مضمنة فيه بصورة غير مباشرة من خلال:
1) العقوبات المفروضة على كل من يزود النظام بالطائرات الحربية وقطع غيارها وكل ما يتعلق بها من منتجات وخدمات.
2) الشرط الأول من شروط تعليق العقوبات، الذي يتضمن توقف الحكومتين السورية والروسية عن استخدام المجال الجوي السوري في استهداف المدنيين.
3) مقدمة الفصل الثالث المعنون بـ”تقييم سبل محتملة لتعزيز حماية المدنيين”، التي تشير إلى أنه على الرئيس، في غضون فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، أن يطلع لجان الكونغرس ذات الاختصاص على تقييم ما يمكن اللجوء إليه من “وسائل عسكرية وغير عسكرية” لتعزيز هذه الحماية.
من اللافت للانتباه أمريكيًا- عراقيًا حقيقة أن ثلاثة رؤساء متعاقبين، جمهوريين وديمقراطيًا، وعلى مدى 13 عامًا، حافظوا على الموقف الحاد نفسه من نظام صدام والعقوبات الدولية، وهذه الاستمرارية إنما تعكس موافقة الرأي العام على هذه الاستراتيجية في العراق، بخلاف ما حدث في أثناء الغزو أو في أفغانستان أو فيتنام قبل ذلك، وذلك في المقام الأول لأن الأمر ينطوي على تدخل مباشر قد يسفر عن ضحايا أمريكيين (كما يمكن الحديث مطولًا في مكان آخر عن نجاح آليات التأثير التي مارستها الإدارة الأمريكية في الحفاظ على تأييد الرأي العام، رغم مئات التقارير التي تفصّل ما حل بالعراق من كوارث إنسانية). يمكن قول الأمر نفسه عن قانون “قيصر” الذي يُعزى تأخر إصداره إلى موقف باراك أوباما في المقام الأول (المتناسق مع خطه الأحمر إزاء مجزرة السلاح الكيماوي في عام 2013)، مع العلم أن القانون حصل على موافقة الحزبين، وموافقة الرئيس، في ذروة الانقسام الحالي.
في تقييم أنظمة العقوبات
إن المعيار الأول لنجاح أي “نظام عقوبات” هو تحقيقه لأهداف كان من الممكن تحقيقها باتباع وسائل أخرى، لكنها بتكاليف وخسائر أقل مما قد يسفر عنه اللجوء إلى تلك الوسائل (تكاليف بشرية، اقتصادية، بيئية، محلية، إقليمية…).
في الحالة العراقية، حددت الولايات المتحدة وبريطانيا أهدافهما بإزاحة صدام عن رأس السلطة ومنع نظامه من تطوير أي مشاريع تفضي إلى حيازة العراق على أسلحة دمار شامل، من هنا، يمكن فهم البروباغندا العالمية، والأمريكية بصفة خاصة، التي تعتبر أن حصار العراق قد أدى الأغراض المطلوبة منه بنجاح، بغض النظر عن كل الكوارث الإنسانية الموثقة بحق المدنيين العراقيين في تلك المرحلة. وأما في الحالة السورية، فإن الهدف المعلن من قانون “قيصر” يتضح في البداية من مسمى القانون نفسه (حماية المدنيين في سوريا). إن مفهوم “الحماية” بصفة عامة غير قابل للقياس، ولهذا حدد القانون عدة شروط ينبغي أن تتوفر من أجل رفع العقوبات، أي تحقيق الهدف منها، وهو حماية المدنيين السوريين.
في المقابل، إذا ما أخفق القانون في تحقيق هدف الحماية، فإن الإدارة الأمريكية إنما تضع نفسها، من خلال وثيقة رسمية هذه المرة، ضمن قائمة المسؤولين عن أي كارثة قد تحل بالسوريين ابتداء من تاريخ دخول قانون “قيصر” حيز التنفيذ. وضمن هذا السياق، ينبغي على السوريين استغلال هذه الفرصة بتركيز جهودهم على مطالبة الأمريكيين أمام العالم أجمع بالالتزام بالحماية التي أقروها في نص قانونهم، وسيكون هذا أكثر جدوى من أي تكرار للتجارب الفاشلة التي تحاول الاعتماد على قوى إقليمية أو دولية أخرى.
على نحو مختصر، يمكن النظر إلى نظام العقوبات في قانون “قيصر” باعتباره الحصيلة المكثفة لكل مشاريع القرارات ذات الصلة بسوريا، التي رفضتها روسيا والصين في مجلس الأمن منذ عام 2011. لقد دأبت روسيا على استخدام حق النقض (الفيتو)، والصين بصورة أقل لأسباب حاولتُ تسليط الضوء عليها في مقالة سابقة، من أجل إبقاء نظام الأسد في السلطة، وبات واضحًا للجميع أن العضوين الدائمين في مجلس الأمن لن يسمحا بإحداث أي تغيير في الوضع القائم من خلال المنظومة الدولية الأعلى.
الجدير بالذكر أيضًا أن كلًا من أمريكا وبريطانيا مارستا السياسة نفسها طبق الأصل طوال 13 عامًا، إذ رفضتا مرارًا مجرد التفكير بتخفيف حدة العقوبات في حال التزم العراق بجزء من شروط رفعها (الكل أو لا شيء)، بحسب تعبير الرئيس الأسبق للجنة الأمم المتحدة الخاصة، رولف إكيوس، في عام 1991، ثم اتضح للجميع أن العقوبات لن ترفع حتى لو التزم العراق بجميع شروطها. (المفارقة أن روسيا نفسها عارضت رفع العقوبات مقابل استبدال ما يعرف بـ”العقوبات الذكية” بها، التي اقترحتها أمريكا وبريطانيا في عام 2001، ثم عادت لتوافق عليها في السنة التالية!). إن الفارق ما بين الحالتين العراقية والسورية هو نفسه ما يسبغ على الولايات المتحدة صفة شرطي العالم، أي قدرتها على فرض عقوبات أحادية صارمة تستطيع من خلالها تجاوز أي دولة أو مجموعة إقليمية أو دولية، بما في ذلك مجلس الأمن نفسه. وهكذا، فإنه بإمكان الولايات المتحدة ممارسة الضغط على رعاة الأسد حتى لو امتثلوا إلى شروط تعليق العقوبات كافة التي ينص عليها قانون “قيصر”.
من المهم أيضًا، في معرض التمييز ما بين عقوبات مجلس الأمن على العراق وقانون “قيصر”، الإشارة إلى أنه في الحالة الأولى لم تميز القرارات الصادرة ما بين الدولة كاملة، أو الحكومة العراقية، أو نظام صدام حسين، وإنما كان الخطاب موجهًا إلى “العراق” دون تخصيص، على عكس ما نراه في قانون “قيصر” الذي يحدد كلًا من الحكومة السورية ونظام بشار الأسد و”حكومة بشار الأسد بالنص”، بل ويمايز فيما بينها في مواضع عديدة، ولعل أكثرها وضوحًا:
1) تلك التي تتعلق بدعم القانون للجهات المتخصصة بجمع الأدلة على جرائم الحرب المرتكبة في سوريا، إذ ينص القانون بصريح العبارة على أن هذا الدعم يستثني بناء قدرات تحقيقية أو قضائية للحكومة السورية، وكذلك دعم الملاحقات القضائية المحلية، طالما أن “بشار الأسد لا يزال في السلطة”.
2) الشرط الثالث من تعليق العقوبات، الذي يشترط على “الحكومة السورية” الإفراج عن المعتقلين السياسيين المحتجزين في سجون “نظام بشار الأسد”.
3) الشرط السابع من تعليق العقوبات، الذي يشترط على “الحكومة السورية” اتخاذ خطوات قابلة للتحقق بصدد التأسيس لمحاسبة فعالة لمرتكبي جرائم الحرب في سوريا، وتحقيق العدالة لضحايا جرائم الحرب التي ارتكبها “نظام الأسد”.
ناهيك عن أن الأسد نفسه على رأس المجموعة التي على الرئيس الأمريكي أن ينظر في إدراجها ضمن قائمة الشخصيات المسؤولة عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بحق المدنيين وعائلاتهم.
ما سبق يشير إلى أنه على الرغم من عدم إشارة القانون صراحة إلى تغيير النظام كما أشرنا في موضع سابق، فإنه يجعل من سابع المستحيلات التفكير بإعادة الشرعية لرأس النظام، ناسفًا كل المحاولات المستميتة لرعاته لتحقيق ذلك خلال السنوات الماضية.
يمكن القول أيضًا إن القانون، في المقابل، ومن خلال هذا الفصل ما بين نظام الأسد وحكومة الأسد والحكومة السورية، يحمّل روسيا أعباء إضافية طالما أن الأسد لا يزال في السلطة، في حين أنه سيكون بإمكان الروس الحفاظ على مناطق نفوذهم واتفاقاتهم مع “الحكومة السورية” بشرط واحد فقط، الإطاحة بالأسد.
في التفاعل على الصعيد المحلي
عادة ما تراعي أنظمة العقوبات، أو تحتال، بصفة أدق، على المبادئ الأساسية في القانونين الدوليين العام والإنساني، وعلى رأسها الحق في السيادة، وتقرير المصير، واتفاقيات “جنيف” وملحقاتها الإضافية، وقائمة معروفة يطول ذكرها، وبالتالي، فإنه ثمة رهان ضمني ينطوي عليه أي نظام عقوبات مفاده أن الضغوطات الاقتصادية الناجمة عنه سوف تدفع في مرحلة ما إلى تغيير حتمي تقوده إرادة شعبية داخلية. في الواقع، كان هذا الرهان خاسرًا في الحالة العراقية إلى حد أن المسألة استدعت تدخلًا عسكريًا في نهاية المطاف، بل يمكن القول إن العقوبات أسهمت في تعزيز سلطة صدام حسين ولم تخفف من حدة انتهاكات حقوق الإنسان طوال فترة حكمه للبلاد.
وأما فيما يتعلق بالهدف الآخر، أي منع حيازة أسلحة دمار شامل، فإن العقوبات قد حققت غايتها قبل الغزو بسنوات عديدة.
عمومًا، ثمة أسباب عديدة أدت إلى فشل العقوبات وحدها في الإطاحة بصدام حسين، ولا مكان للحديث عنها بإسهاب هنا، بيد أن المقارنة المستمرة ما بين الحالتين العراقية والسورية تستلزم إشارة سريعة إلى أبرز العوامل التي ساعدت على بقاء نظام صدام حسين في السلطة ضمن هذا السياق:
نظام التقنين العراقي الذي منح نظام صدام حسين مجالاً أوسع لمواجهة العقوبات، وساعده في كسب تأييد شعبي يضمن في الحدّ الأدنى ألا يُطاح به من خلال ثورة داخلية، وذلك باعتبار أنه يتحمل مسؤولية تلبية احتياجات السكان الأساسية، مصحوبًا بقبضة أمنية لا تتورع عن ارتكاب أي فظائع بتهم جاهزة كالعمالة والخيانة.
وعلى النقيض من ذلك، يبدو جليًا أن نظام الأسد يرزح بالفعل تحت ضغوطات مالية هائلة لا تكفي لسد احتياجاته، ولا يمكن قراءة سلسلة فيديوهات رامي مخلوف، وأزمة المعابر غير الشرعية مؤخرًا ما بين ماهر الأسد وحسن نصر الله، وعقود الإيجار الطويلة الأمد لمنشآت ومواقع حيوية في البلاد، إلا بوصفها مؤشرات على هذه الضغوطات.
البروباغندا المكثفة التي رافقت كلًا من نظام التقنين والقبضة الأمنية، والتي يمكن القول إن صدام حسين نجح من خلالها إلى حد ما في خلق صورة له باعتباره درعًا يحمي العراق، أو العرب، أو الإسلام، (أيها أنسب!) من مطامع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
الدعم الذي تلقاه النظام العراقي من أنظمة إقليمية ودولية ذات بنية مشابهة، إذ أسهمت الإطالة بعمر نظام صدام في إبعاد شبح مواجهة المصير نفسه عن تلك الأنظمة، ولو أن ذلك كان مؤقتًا كما شهدنا. وهكذا، دعمت تلك الأنظمة نظام صدام وسهلت له عمليات التهريب وغسيل الأموال، وفي الواقع، هذا هو السلوك المثالي المتوقع من النظام الإيراني في الحالة السورية.
يمكن القول، إن نظام الأسد لا يمتلك العاملين الأول والثاني، ويبدو أن العقوبات ستتسبب في أن يفقد جزءًا حيويًا من العامل الثالث الذي يتعلق بالدعم الخارجي الذي يتلقاه من رعاته. وقد يعتقد البعض أن الاحتجاجات الشعبية غير قادرة وحدها على إسقاط النظام، على الرغم من أهميتها الكبرى وبطوليتها، وتستند هذه النظرة إلى ما شهدته الحالة العراقية من احتجاجات عارمة على صعيد الطبقة الوسطى- الدنيا، وانشقاقات كبرى (أبرزها حسين كامل، صهر صدام شخصيًا ووزير التصنيع العسكري)، ومع ذلك تمكن نظام صدام حسين من الاستمرار تحت شعار “لسنا الأفضل، لكننا الوحيدون” فيما يتعلق بتأمين الحاجات الأساسية للشعب العراقي (وإن كان ذلك بنسبة لا تتجاوز في أحسن الأحوال 23% عن الوضع الذي كان قائمًا ما قبل غزو الكويت)، بالإضافة إلى استغلال القمع المفرط والصلات العشائرية، حدث في العراق أيضًا، على غرار ما يحدث الآن في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري في شمالي وشرقي البلاد، أن جرى التداول بعملات أخرى غير الدينار العراقي، أبرزها ما يعرف بالدينار السويسري الذي ظل متداولًا في إقليم كردستان العراق لأكثر من عشر سنوات. لكن على الصعيد الأهم، أي على صعيد البلاد نفسها، ينبغي القول إن عقوبات الأمم المتحدة على العراق جاءت في مرحلة كان فيها الأخير قد بلغ من الدمار درجة مفزعة.
وقد ذكر رئيس بعثة تقييم الاحتياجات الإنسانية في العراق والكويت، مارتي أهتيساري، عقب عملية “عاصفة الصحراء”، في تقرير أعده لمجلس الأمن في آذار عام 1991 أنه: “جلب الصراع الذي حدث مؤخرًا نتائج تشبه أحداث يوم القيامة على الهياكل الأساسية الاقتصادية، لما كان حتى كانون الثاني 1991 مجتمعًا حضريًا يعتمد على الآلات إلى حد بعيد، لقد أُعيد العراق إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية”.
ويكفي القول إن سعر الدينار العراقي كان يعادل قرابة 3.2 دولار أمريكي حتى أواخر عام 1989، قبل أن تنهار قيمة الدينار بحيث أصبحت قيمة الدولار الواحد تعادل قرابة 3000 دينار في غضون ست سنوات فقط.
وهذا بالضبط ما فعله نظام بشار الأسد ورعاته في سوريا على امتداد عقد من الزمن، وليس تحالفًا أجنبيًا قوامه قرابة 30 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا السبب أيضًا لن يكون بمقدور الأسد خلق أي بروباغندا عن الصمود في وجه “مطامع الغرب” مثلما فعل النظام العراقي، خاصة أن أيديولوجيا “المقاومة والممانعة” قد سقطت منذ زمن بعيد، ولم تعد أكثر من مادة للكوميديا السوداء في ثقافة المنطقة عمومًا.
لقد أثار حديث المبعوث الأمريكي إلى سوريا، جيمس جيفري، منذ أيام قليلة نقاشات حادة عندما عزا انهيار الليرة إلى تدابير اتخذتها بلاده كما ذكرتُ في المقدمة، وأعتقد أن حديثه ورد طبيعيًا ومتوقعًا ضمن سياق التسويق لنجاح مساعي الولايات المتحدة وللآثار المترتبة على قانون “قيصر” حتى قبل دخوله حيز التنفيذ.
وكذلك أشار جيفري إلى أن بلاده قدمت للأسد عرضًا قد يمكّن الأخير من إنقاذ البلاد إذا ما قبل به، وهذا أمر متوقع الحدوث أيضًا وليس جديدًا في الحالتين السورية والعراقية. وأيًا كان هذا العرض، فبمقدورنا اعتبار أنه قد حقق أهدافه وانقضى الأمر.
ويمكن الحديث عن ثلاثة أهداف هنا، أولها أن هذا العرض بمثابة رسالة تحذير أخيرة إلى روسيا، الراعي الأبرز لنظام الأسد، وثانيها أنه إعلان براءة وغسل يد أمام المجتمع الدولي من أي كارثة قد تحل بالبلاد (وعلى رأسها تجويع المدنيين الذي نصّ الملحق الأول لاتفاقيات جنيف 1977 على حظره كأسلوب من أساليب الحرب)، وثالث هذه الأهداف توجيه رسالة إلى السوريين أنفسهم مفادها أننا حاولنا حتى اللحظة الأخيرة تجنيبكم ما قد يحدث مستقبلًا، لكن الأسد لم يوافق، وبالتالي فإن المسؤولية تقع على عاتقه في المقام الأول.
في أواسط سنة 1998، أقر البرلمان السويدي قانون حظر بيع الخدمات الجنسية. تميز هذا القانون باعتباره الأول من نوعه عالميًا من حيث إنه في الحقيقة لا يحظر “بيع” الخدمات الجنسية، وإنما يجرم “شراءها” بعقوبات تتضمن السجن أو الغرامات المالية، أو الاثنين معًا.
كان هذا القانون أول ما تبادر إلى ذهني حينما شرعت بالكتابة عن قانون “قيصر”، فالأخير لا يلزم الأسد بالتخلي عن سياساته في “بيع” كل ما هو تحت سيطرته من خدمات وأراضٍ ومنشآت وثروات سورية، لكنه في المقابل ينزل العقاب بكل من يفكر في “الشراء” منه.
بيد أن ثمة فارقين جوهريين ما بين الحالتين السابقتين، أولهما أنه في حين يمكن إيجاد مبررات إنسانية قد تضطر المرء إلى اللجوء لبيع الجنس (على غرار العوز)، إلا أنّه يستحيل في المقابل إيجاد أي مبرر إنساني لنظام الأسد في بيع البلاد منذ عام 1967 مع تسليم الجولان، وصولًا إلى بيع محطة “الحجاز” قبل أسابيع قليلة.
الفارق الثاني، وهو الأهم برأيي، أن بيع الجنس يتعلق بملكية شخصية هي الجسد، في حين أن عائلة الأسد تبيع ما لا تملك في الأصل، سوريا.
–