أسامة آغي
لم يعد بمقدور النظام السوري الادعاء بعد اليوم بأنه حامٍ للأقليات في سوريا، فمظاهرات السويداء التي أتت على عتبة تدهور الأوضاع المعيشية للسوريين، أثبتت عبر شعاراتها رفضها لنظام الحكم السوري، حيث هتف المتظاهرون شعارات ذات دلالة ومضمون سياسيين، فقد ردّدوا “سوريا حرّة.. إيران روسيا برّا”.
ولم ينسَ المتظاهرون الغاضبون ترديد شعار الثورة السلمية عام 2011 (يلا ارحل يا بشار)، وقد حمّلوا الحكومة والنظام مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وتفشي الغلاء والفساد في البلاد.
وقد سبقت هذه المظاهرات تصريحات جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي الخاص بالملف السوري، الذي قال في لقاء مع ممثلين عن الجالية السورية في الولايات المتحدة: “النظام السوري لم يعُد قادرًا على إدارة سياسة اقتصادية فاعلة، وروسيا وإيران لم تعودا قادرتين على تعويم النظام”.
وأوضح جيفري سياسة بلاده من خلال تطبيق قانون “سيزر” خلال أيام قائلًا: “إن الولايات المتحدة تسعى لعزل النظام مع الحرص على ألا يتعامل معه أحد، وألا يقدّم له أحد أي تمويل من أجل إعادة الإعمار”.
العزم الأمريكي على عزل النظام السوري من خلال قانون “سيزر” لإجباره على الذهاب إلى “جنيف”، لتنفيذ محتويات القرار 2254، وضع الروس والإيرانيين في موضع العاجز عن الاستمرار بتقديم الدعم المادي له، وهذا يترتب عليه إعادة إنتاج سياستيهما حيال ملف الصراع السوري.
الأمريكيون ربطوا بين تنفيذ فقرات “سيزر” ومدى تجاوب النظام السوري مع القرار الدولي 2254، وهذا يعني رسالة لحاضنة النظام، بأنه يستطيع تجنّب العقوبات والحصار، إذا ذهب إلى “جنيف”، وعمل على تنفيذ القرار الدولي المذكور.
الأمريكيون واضحون حيال ضرورة خروج إيران وميليشياتها من سوريا، وهذا يتزامن مع أزمة خطيرة يعيشها الاقتصاد الإيراني، مترافقة مع نزيف عسكري مستمر للقوات والميليشيات الإيرانية الموجودة في سوريا.
ولزيادة الشرخ بين الحليفين الروسي والإيراني في سوريا، اللذين بدأت تظهر ملامح صراع بينهما على النفوذ في مؤسسات الدولة السورية الاقتصادية والأمنية، صرّح أكثر من مسؤول أمريكي أن “المطالب الأمريكية بانسحاب القوات الأجنبية من سوريا، لا تشمل الوجود الروسي المتمثل بنقطة الإمداد التقني في طرطوس والقاعدة الجوية في حميميم”.
هذه التصريحات الأمريكية هي تطمينات للروس، بالحفاظ على نفوذهم ومصالحهم في سوريا، وفق التقدير الأمريكي، وهي دعوة غير مباشرة للروس، من أجل إيجاد مربعات حل الصراع السوري، وفق القرار الدولي 2254، الذي تصرّ الولايات المتحدة على أنه قاعدة الحل السياسي في سوريا.
نحن إذًا أمام مشهد غير مسبوق في وضع ملف الصراع السوري، إذ إن النظام السوري يفقد كل يوم قدرة إدارة البلاد والاقتصاد، وبدأت التصدعات واضحة في بنيته الصلبة، من خلال الصراع بين آل مخلوف وآل الأسد، هذا الصراع انتقل إلى “حاضنته المؤيدة”، وكذلك استطاع الأمريكيون محاصرة تسييل الأموال باتجاهه من لبنان، كل ذلك قبل أن يتم تطبيق قانون “سيزر” الشهير، الذي يمنع ويفرض عقوبات أمريكية صارمة على كل فرد أو شركة او دولة تتعامل اقتصاديًا مع النظام السوري.
الأمريكيون، وقد يكون الروس معهم، ذهبوا في ذات الاتجاه، يعزّزون الصراع بين جناحي النظام السوري، إذ صار من الواضح قيام رامي مخلوف بتحشيد المؤيدين له والمستفيدين منه، على أرضية مواجهة عسكرية في الحصن الأساسي للنظام “منطقة الساحل السوري”.
تفجّر الصراع في مدن وقرى محافظتي الساحل السوري (اللاذقية وطرطوس) صار ممكنًا في هذه المرحلة، نتيجة اتساع الهوّة بين مصالح أسرتي الأسد ومخلوف، وربما كان هذا الصراع جزءًا من سيناريو غير معلن لتفكيك بنية النظام السوري.
الصراع المحتمل قريبًا، سيعزّز من عزل الحلقة الضيّقة للحكم الأسدي، وهذا يعني وضعها عارية أمام حاضنتها وأمام من تحكمهم بالقوة والرعب، ولكنّ الأهم من ذلك هو أن “الصراع الأسدي- المخلوفي” إذا انفجر سيبدّد فكرة تقسيم كان سيلجأ إليها النظام تحت مسمى روسي هو “سوريا المفيدة”.
أمام هذا العجز البنيوي للنظام، الذي يشير إلى انسداد الأفق أمام قدرته على تأبيد هيمنته وسيطرته السياسية والأمنية والاقتصادية، وفق ترتيبات حكمه المعتمدة على الفساد وزرع الرعب، يمكن القول إن قانون “سيزر”، الذي لم يبدأ تطبيق فقراته، سيطيح بكل قدرة متبقية لدى النظام على مقاومة التغيير، الذي نزل السوريون بمظاهراتهم السلمية مطالبين به عام 2011.
النظام السوري الذي صوّر مطالب أغلبية الشعب السوري بكلّ مكوناته على أنها إرهاب، يقف اليوم أمام مظاهرات السويداء التي تطالب برحيله في حالة عجز حقيقية، وهذا يعني سقوط ادعائه بأنه حامٍ لـ”الأقليات” في البلاد، وكأن هذه “الأقليات” كانت جزرًا في بحر معادٍ لها، وهذا لم يستطع الأسد وحماته الروس من ترسيخه كفكرة أو موضوع حقيقي.
وفق ما تقدم يمكننا القول، إن بنية النظام العميقة ونواته الصلبة قد بدأت بالتفكك والانهيار، نتيجة انتقال جوهر الصراع في حلقته الأخيرة إلى مربعها، وهذا يقرّب احتمال رضوخ حلقة النظام الضيقة للذهاب إلى “جنيف”، من أجل بلورة اتفاق وفق جوهر القرار 2254، مقايضة وجودها الآمن بالقبول بالتغيير السياسي في البلاد.
عدم رضوخ الحلقة الضيّقة للضغوط الأمريكية والروسية، التي بدأت التسريبات تشير إليها، يعني أن هناك احتمالًا كبيرًا بلجوء الروس إلى تدبير تغيير بالقوة عبر نفوذهم في جيش النظام، وهذا التغيير بات ضرورة سواء عبر تنفيذ القرار الدولي 2254، أو عبر الإطاحة بالأسد من قبل مجلس عسكري قادر على ضبط القوى والميليشيات التابعة للنظام.
الأقرب للواقع هو الاحتمال الثاني، فالحلقة الضيّقة للنظام السوري لا تزال قيد التشابك مع النفوذ والهيمنة الإيرانية، التي تريد ثمن استثمارها في سوريا، وهذا يعتمد على سرعة طرد إيران، لتحرير هذه الحلقة من قيدها الأكبر، وهو أمر لا يتم بمثل هذه البساطة، فالإيرانيون يعرفون تمامًا أن خسارتهم للحلقة السورية ستكون مفتاح هزيمة مشروعهم الإمبراطوري الذي حلمت حكومة الملالي في طهران بتحقيقه.
فهل سيكون تطبيق قانون “سيزر” على النظام السوري، وما يتركه من آثار مدمرة على حياة الناس، بسبب عدم تغيير النظام سلوكه المبني على النهب والفساد، مفتاحًا للتغيير السريع؟ سؤال قد تجيب عنه الأسابيع القليلة المقبلة، التي تدلّ المؤشرات على أن لقمة العيش البسيطة ستصير حلمًا للسوريين قبل انقشاع ظلام هذا النظام.