نبيل محمد
سباق تخوضه فرق عالمية حاليًا تدعو جماهيرها للتصويت لها فيه، لانتقاء أفضل الأعمال الموسيقية في الحجر الصحي، تلك الأعمال التي ملأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أعدتها تلك الفرق من منازل أعضائها، لتخرج بشكل بات معروفًا اليوم، وهو شاشات مجزأة إلى مستطيلات ومربعات، كل جزء منها تلتقطه كاميرا غالبًا تكون لجهاز محمول، تخوّل العازف أو المغني مشاركة فرقته بإنتاجها في زمن الحجر الصحي. أوركسترا “أورنينا” السورية كانت واحدة من تلك الفرق المتنافسة بأغنيتين هما “أه يا حلو” و”يا مال الشام”.
لم يكن ما أجبر فرقًا موسيقية كثيرة عبر العالم على إحياء الأمسيات، وتسجيل الأغاني والقطع الموسيقية المشتركة عبر “يوتيوب”، تطبيقًا للتباعد الاجتماعي الذي فرضه انتشار فيروس “كورونا” في العالم، كإجراء مؤقت ريثما يمكن لتلك الفرق الاجتماع، هو ذاته السبب الذي جمع أصواتًا سورية منتشرة في بقاع كثيرة من الأرض، في أغانٍ مشتركة من خلال أوركسترا “أورنينا”، فتباعدهم الاجتماعي هذا ليس وليد انتشار وباء عام فقط، إنما هو وليد وباء دمشق الخاص الذي جعل فرصة لقائهم صعبة إن لم تكن مستحيلة، فباتت تلك القوالب التي كانوا إحدى الفرق التي اعتمدتها وبثتها عبر “يوتيوب”، حلًا ليس لمشكلة عزلهم الاجتماعي الذي فُرِض على مختلف سكان الكوكب فقط، إنما هو أيضًا حل لعزلهم القديم بعيدًا عن بلادهم، فخارج تلك التسجيلات قد لا يكون من السهل اجتماع أولئك العازفين والمغنين على خشبة واحدة.
قبل أكثر من شهرين، جمعت “أورنينا” بقيادة المايسترو شفيع بدر الدين المقيم في ألمانيا، مجموعة من أعضائها المغنين والعازفين السوريين، من رشا رزق المقيمة في فرنسا، إلى لبانة قنطار المقيمة في الولايات المتحدة، وشادي علي المقيم في السويد، وعلي أسعد المقيم في النمسا، ومجموعة تضم أربعة وعشرين فنانًا سوريًا، لينتجوا معًا أغانيهم عبر “يوتيوب”، بعد أن تمكنت الأوركسترا، أواخر عام 2019، من جمع عدد من أعضائها مباشرة على واحد من أشهر مسارح الموسيقى في برلين، ليقدموا جزءًا من مشروع الأوركسترا التي انطلقت عام 2016، لتعيد تشكيل مجموعة منتقاة من التراث الشعبي الموسيقي السوري في قالب “فلهارموني” محترف، ليقدم هذا التراث على خشبات عالمية، ويصدح مغنوه من الذاكرة الجمعية، المرتبطة ببلاد خرج أغلب أعضاء الفرقة منها مرغمين.
في مشروع “أورنينا” النشيط، والذي يبدو أن أغلب القائمين عليه والعاملين فيه يحملون رؤية مشتركة، تسعى لعدم اقتصار الفن السوري على أحد خيارين، إما أن يبقى محكومًا داخل الخريطة السورية بتقاليد وأعراف ومسارح النظام الذي يحكم الفن كما يحكم أي قطعة عسكرية في جيشه المنتشر على الطرقات، أو مشتتًا مفتقرًا إلى التنظيم والإنتاج، محدودًا ضمن حالات فردية تحاول الاستعانة بأقرب شريك سواء كان سوريًا أو غير سوري، لإنتاج ما يمكن إنتاجه، أو لإحياء أمسية يمكن للعازف فيها أو المغني تذكير نفسه أنه ما زال قادرًا على الإنتاج ضمن ظرف اللجوء التي يعيش بها، ويمكنه أيضًا أن يقدم شيئًا من تراث بلاده. من هنا انطلقت “أورنينا”، لتصل اليوم بمجموعة من حفلاتها وتسجيلاتها إلى أن تكون صوتًا للموسيقى الاحترافية السورية في الخارج، قادرة على التنقّل والإنتاج، وتقديم الصوت النظيف، وفتح الأرشيف بأنامل تعرف على الأقل كيفية التعامل مع التراث، وكيفية عدم أذيته حين يتم وضعه بقوالب جديدة.
ليس جديدًا أن يتم تقديم التراث الموسيقي، بأشكال مختلفة، من دمجه بموسيقى حديثة، إلى مزاوجته بنماذج موسيقية غربية، إلى تقديمه من خلال فرق أوركسترالية، لكن الجديد الذي تقدمه “أورنينا” وفق ما يبدو حتى الآن، أن إعادة صياغة التراث السوري لا يتم برعاية أو إشراف رسمي سوريين، طالما أسهم في الإساءة للتراث أكثر من تقديمه بصورة طبيعية ناصعة، وأن المبادرة الجمعية المحترفة تضمن عدم الاستهانة بالمشروع، وعدم تحويله إلى مجرد فيديو “يوتيوب” سريع يهدف إلى جمع أكبر عدد من المتابعين بأقصر وقت.