أملٌ يأتي وآخرُ يتبدد.. على هذه الحال يعيش أهالي مخيم “اليرموك” الذين فارقوه على حلم العودة يومًا، وجمع شتاتهم من جديد، وإعادة الروح إلى جسده المهشم وشوارعه المعبقة بتاريخ فلسطين والقضية الفلسطينية التي تجذرت في ذهن أجيال مرت عليه حفرت نضالها الفكري والثقافي في أزقته وحاراته، ونقشت على جدرانه صورًا تذكّر بحق العودة إلى الأراضي التي هُجر منها أجدادهم عام 1948 بعد مرارة التغريبة التي عاشوها، والتي باتت تغريبتين.
إلى المخيم تمضي أم حسن (لاجئة فلسطينية) كلما سمعت خبرًا من هنا وهناك عن عودة قريبة، حاملة معها أوراقًا تثبت ملكية منزلها الذي طاله دمار كبير جراء الحرب، تبعه “تعفيش” للأثاث والأجهزة الكهربائية.
تقول أم حسن في حديثها لعنب بلدي، “لن أتوقف عن المطالبة بالعودة إلى منزلي حيث ذكريات عائلتي، ولا أرى مبررًا لمنعنا من ذلك بعد عامين من توقف الاشتباكات”.
في كل مرة تذهب أم حسن إلى المخيم تعود محملة بالوعود، “عندما أسأل العساكر الذين يقفون على باب المخیم إن كانوا يعرفون أي معلومات عن عودة الأهالي، يقولون لي (إن شاء الله عن قریب)، لكن على أرض الواقع لا يتغير شيء”.
“كامل البناء بلا جدران ولا دعائم، وقد تم تعفيش كثير من المفروشات والكهربائيات، ولكني سررت حين وجدت ألبوم الصور الذي يحوي بين دفتيه ذكريات لا يمكن تقديرها بثمن”، تضيف السيدة الفلسطينية.
وتتابع، “كثير من أهالي المخيم أبدوا استعدادهم لإزالة الأنقاض بأنفسهم وترميم منازلهم، فمعاناتهم من ارتفاع أسعار الإيجارات وغلاء المعيشة باتت لا تحتمل، وسط استخفاف جميع الجهات المعنية وعدم الاكتراث بمصيرهم”.
ممنوع دخول الأهالي
لم يسمح حتى الآن لأهالي مخيم “اليرموك” بالعودة بحجة عدم الانتهاء من ترحيل الأنقاض، بينما أُتيح لهم تفقد ممتلكاتهم داخله بعد استصدار تصريح أمني.
وتوقعت “وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” (أونروا) في تقريرها “النداء الطارئ 2020” أن يظل أغلب سكان المخيم (الذين كان يبلغ عددهم ما بين 500 و600 ألف نسمة، منهم 160 ألف لاجئ فلسطيني) في حالة نزوح عنه، مشيرة إلى محدودية الوصول إليه، وضخامة حجم الدمار.
ووفقًا لإحصائيات الوكالة، يعيش 91% من أسر اللاجئين الفلسطينيين في سوريا في فقر مطلق، ويعتمد 80% منهم على المساعدات النقدية من “أونروا” كمصدر دخلهم الرئيس.
سابع أكبر منطقة دمار في سوريا
شهد مخيم “اليرموك” معارك بين فصائل “الجيش الحر” وقوات النظام السوري، وسط انقسام الفصائل الفلسطينية بين الجانبين، قبل سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على ثلثي المخيم عام 2015.
وسيطرت قوات النظام بشكل كامل على منطقة الحجر الأسود ومخيم “اليرموك”، في أيار 2018، بعد عملية عسكرية استمرت شهرًا، طُرد خلالها تنظيم “الدولة” من المخيم، غداة اتفاق إجلاء غير رسمي، نُقل بموجبه عناصر التنظيم إلى بادية السويداء.
وتسببت الاشتباكات بدمار ما يزيد على 60% من الأبنية والبنى التحتية في المخيم، وصُنّف كسابع أكبر منطقة دمار في سوريا، وفق مسح أجرته “وكالة الأمم المتحدة للتدريب والبحث” (UNITAR).
وفي أحدث تصريح رسمي بما يخص عودة الأهالي، قال عضو المكتب التنفيذي لمحافظة دمشق، ورئيس لجنة تسلّم المخيم، سمير جزائرلي، مطلع حزيران الحالي، إن المحافظة تعمل على تأمين المخيم من المتفجرات، والتأكد من سلامة المساكن، وتأمين الخدمات الأساسية لها، قبل عودة جميع المواطنين.
وأشار إلى أن موعد البدء بعودة السكان سيُعلن عنه رسميًا من خلال موقع محافظة دمشق، نافيًا ما أُشيع حول تسجيل أسماء الراغبين بالعودة في جامع “الوسيم”.
مخطط تنظيمي
وفي آذار الماضي، أعلن جزائرلي عن ثلاثة حلول تنظيمية للمخيم قدمتها “الشركة العامة للدراسات الهندسية”، تمثل الأول بإعادة تأهيل المناطق الأكثر تضررًا وتهذيب بعض الشوارع الأخرى، والثاني بإعادة تنظيم المناطق الأكثر تضررًا بمواصفات قياسية، من ضمنها أبراج تُشيّد في شارع “الثلاثين”، بينما تبقى منطقة “المخيم القديم” على وضعها التنظيمي، والثالث بإعادة تنظيم كامل الـ220 هكتارًا.
وبيّن جزائرلي أن التوافق تم على الاقتراح الثاني، الذي سيستهل بإجراء تعديلات بسيطة في شارع “اليرموك” الرئيس، تبدأ بعدها عملية إعادة الأهالي إلى منازلهم بشرط إثبات الملكية.
ويأتي ذلك عقب إلحاق مخيم “اليرموك” تنظيميًا بمحافظة دمشق، بموجب قرار من رئيس مجلس الوزراء، عماد خميس، بعد أن كان تابعًا للجنة المحلية، التي تتبع بدورها لـ”وزارة الإدارة المحلية”، وهو ما أعلنه جزائرلي في تصريحات لموقع “الاقتصادي” في تشرين الثاني 2019.
ويمتد مخيم “اليرموك” على جغرافية المخطط التنظيمي الثاني لمدينة دمشق “باسيليا سيتي”، الذي أقره رئيس النظام، بشار الأسد، في عام 2012 وفق المرسوم “رقم 66”.
والمشروع، المتوقف منذ سنوات، يمتد من جنوب المتحلق الجنوبي وصولًا إلى القدم وعسالي وشارع “الثلاثين”، بمساحة تبلغ 900 هكتار، أي ما يعادل تسعة ملايين متر مربع، ويشمل ما يقرب من 4000 عقار.
وعود العودة
“تباشير” العودة صدرت على لسان العديد من مسؤولي النظام السوري وقياديّي الفصائل الفلسطينية منذ عام 2018 حتى اليوم، تخللتها جرعات من الأوهام بمباشرة أعمال تأهيل البنى التحتية وإعادة الخدمات الأساسية إلى المخيم، وهو ما قابله على أرض الواقع عمليات “تعفيش” طالت منازل الأهالي والبنى التحتية.
عضو في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” (فضل عدم الكشف عن اسمه) أكد في حديث لعنب بلدي عدم وجود أي خطوات حقيقية على الأرض لعودة سكان المخيم إلى منازلهم، رغم الوعود العديدة التي صدرت سابقًا من جهات مختلفة.
وأضاف في هذا الصدد، “كل الوعود منذ توقف الاشتباكات في أيار 2018 هي عبارة عن مماطلة وتسويف، وما نراه على الأرض هو عمليات (تعفيش) واسعة ومنظمة، شملت الحديد المسلح لمنازل السكان وتقديمه الى مصانع المتنفذين لإعادة تدويرها من جديد”.
وأشار إلى أن عمليات النهب “طالت جميع المناطق التي تعرضت للاشتباكات، وهي مناطق شعبية أغلبها غير منظم عقاريًا، وسكانها فقراء وصغار كسبة وموظفون وعمال”.
وبيّن أن “التعفيش” وإخراج المواد لا يزال مستمرًا حتى هذه اللحظة، دون وجود مواقف جدية من أي طرف لإيقاف ذلك.
وتابع، “كل ذلك يعطي انطباعًا لدى الأهالي أنه لا عودة إلى تلك المناطق، وأن المخططات التنظيمية المعدة مسبقًا لها سوف تُنفّذ”.
الأكاديمي والباحث الفلسطيني أحمد قاسم حسین، يعتقد من جانبه أنه لن تكون هناك في المدى المنظور أي عودة لأهالي مخيم “اليرموك”.
وقال في حديثه لعنب بلدي، “أعتقد أن صفحة مخيم اليرموك طويت وإلى الأبد، خاصة أن عملية التدمير التي شهدها المخیم تشي بما لا يدع مجالًا للشك أن المخطط التنظيمي لهذه المنطقة قد تم تحضيره بشكل مسبق، وأن هذه المساحة الجغرافية الضيقة التي تبلغ نحو 11.2 كیلومتر مربع (520 فدانًا) لن تعود مجددًا لتكون مكان تجمع للاجئین الفلسطینیین وإخوانهم السوریین الذین کانوا یسكنونها”.
وأوضح أن إلحاق المخیم تنظيميًا بمحافظة دمشق يعني أن أي عملية لإعادة إعمار المنطقة ستُشرف عليها “الشركة العامة للدراسات الهندسية”، معتبرًا ذلك بمثابة “نعي” للجنة المحلية التابعة لوزارة الإدارة المحلیة، والتي باستطاعتها تقدير حجم الضرر والمتضررين، وفق رأيه.
انزياح ديموغرافي
من جانب آخر، حذّر حسين مما سينجم عن تغییر الواقع العمراني في المخيم من تغييرات ديموغرافية، مشيرًا إلى أن المخيم وسكانه النازحين واللاجئين هم جزء من المأساة السوریة والشتات السوري، “إذ إننا أمام انزياح لكتلة دیموغرافیة كبيرة من اللاجئين الفلسطینیین، فمن أصل نحو 500 ألف لاجئ فلسطيني مسجل لدى وكالة (أونروا)، غادرت شریحة تقدرها بعض التقارير بنحو 200 ألف لاجئ إلى دول الاتحاد الأوروبي، منهم من حصل على الإقامة الدائمة أو الجنسية في الدول التي قدموا فيها اللجوء”.
ويرى الأكاديمي والباحث الفلسطيني أن المستفید بشكل أساسي من هذا الانزياح هو دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي تنظر إلى اللجوء الفلسطيني في سوريا على وجه التحديد على أنه تهديد لأي مشروع تصفوي للقضیة الفلسطینیة.
إثبات الملكيات
حول إمكانية إثبات أهالي المخيم ملكياتهم والمطالبة بالتعويض عنها، أشار الباحث إلى أن القانون السوري يمنح الفلسطيني حق تملّك عدة شقق وأراضٍ زراعية، لكن بعقود غير مسجلة في السجل العقاري، أي عن طريق (الكاتب بالعدل)، مبينًا أنه في المنازعات حیال هذه الملكیة یكون المالك “الطرف الأضعف” على عكس المالك بصیغة “الطابو” والسجل العقاري.
ويضاف إلى ذلك أن شريحة واسعة من اللاجئين لا يملكون اليوم أوراقًا ثبوتية وذلك بعد إحراق بلدیة “الیرموك”، والسجل المدني للاجئین الفلسطینیین، وإتلاف أوراق “كاتب العدل” لعدد كبير من المنازل، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان إثبات ملكية هذه العقارات في ظل الظروف الحالیة.
كما أن وفاة عدد من أفراد الأسرة الواحدة، أو تشردهم في أصقاع الأرض، یجعل من إمكانية “حصر الإرث” وإبراز أوراق ملكية البیوت أمرًا إن لم يكن مستحيلًا فهو بالغ التعقيد.
أين “أونروا” والمنظمات الفلسطينية؟
لفت الباحث الفلسطيني أحمد قاسم حسين، إلى أن “أونروا” تمر في أسوأ مراحلها، خاصة بعد أن حسمت إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، موقفها بوقف تمويلها، في 31 من آب 2018، ورغم ما قدمته الوكالة من خدمات مهمة للاجئين الفلسطينيين في مجالات حياتية عدة كان أبرزها التعليم، يبقى دورها إنسانيًا بحتًا لا يتخطى تقديم المساعدات الإنسانية، وهي لا تستطيع التأثير على صنع السياسات المحلية في سوريا، بحسب تعبيره.
أما “منظمة التحرير الفلسطينية” فوصفها حسين بأنها “مهمشة”، وقد فقدت أي دور لها على الساحة الفلسطينية منذ توقيع اتفاق “أوسلو” عام 1993، وقد حال الانقسام الفلسطيني بين منظمتي “فتح” و”حماس” عام 2007 من قدرتها على القيام بأي دور سياسي يضمن حقوق اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، “فالمنظمة كانت بمثابة وطن معنوي لجميع الفلسطينيين، واليوم هي مجرد غطاء يتم استذكاره لتمرير قرارات التسوية السياسية”.
المدير التنفيذي لمجموعة “العمل من أجل فلسطينيي سوریا”، أحمد حسين، يخالف الباحث الفلسطيني أحمد قاسم حسين بالرأي من حيث الدور الذي يمكن أن تلعبه “أونروا” والمنظمات الفلسطينية، في الدفع نحو عودة أهالي المخيم.
إذ اعتبر في حديثه لعنب بلدي أن الوكالة والفصائل الفلسطينية، لا بد أن تكون طرفاً فعليًا وفاعلًا في قضية التفاوض مع السلطات السورية، والضغط عليها لإعادة إعمار المخيم والسماح بعودة سكانه.
ويرى أن ملف إعادة الإعمار في سوريا جرى تسييسه وتدويله، وأن إعادة إعمار مخيم “اليرموك” ترتبط بوجود قرار سياسي يصعب تنفيذه حاليًا، وبخطط إعمار موضوعة منذ أكثر من 15 عامًا تتعلق بالعشوائيات المحيطة بدمشق وبعض أحيائها، ولن يكون مخيم “اليرموك” استثناء، بحسب تعبيره.
وقال، “ليس من المستبعد أن تكون لهذا الملف تداعيات إقليمية، وأن السلطات السورية تجامل قوى خارجية في تعطيل الأمر، فضلًا عن المحاذير الأمنية التي ستسعى إلى تلافي وقوعها بعد ما جرى في المخيم خلال سنوات الحرب، ناهيك عن عدم وجود التمويل اللازم لإعادة الإعمار أساسًا”.
ومن جانب آخر أشار حسين إلى أنه لا يمكن التعويل على التصريحات أو الوعود التي يقدمها النظام للفصائل الفلسطينية في دمشق، إذ إن المسؤولين السوريين يسمعونهم ما يرغبون بسماعه، فتقوم الفصائل بتكرار هذه الوعود على مسامع الناس دون وجود جدول زمني وخطة عمل محددة.
وأكد المدير التنفيذي لمجموعة “العمل من أجل فلسطينيي سوریا” أن مماطلة حكومة النظام بتنفيذ وعودها لأهالي المخيم بالعودة بعد مرور أكثر من عامين على بسط السيطرة عليه “يضع اللاجئين الفلسطينيين في حالة من انعدام الأمن، ويفاقم من معاناة النازحين، ويهدد مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين بجميع شرائحهم، ويعد مؤشرًا خطيرًا على استمرار انتهاك حقوق الإنسان بالمأوى والعيش الكريم”.
محو خصوصية المخيم
حسين حذر أيضًا من تداعيات تنفيذ المخطط التنظيمي المقترح في المخيم، وكذلك من إلحاقه تنظيميًا بمحافظة دمشق، لافتًا إلى أن “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا” تابعت بقلق بالغ هذا القرار، وأكدت حينها أنه “ينهي ما كان يتمتع به المخيم من خصوصية جغرافية ورمزية تاريخية وسياسية، وأنه قد يصبح مثل أي حي من أحياء دمشق يتبع للمحافظة، وتلغى عنه صفة المخيم وخصوصيته التي تتعلق برمزيته كشاهد على النكبة الفلسطينية عام 1948، وكرمز لحق العودة، وكمقر للمقاومة والثورة الفلسطينية المعاصرة، وكعاصمة للشتات الفلسطيني، ويستعاض عنها باسم منطقة اليرموك”.
كما بيّن أنه ومنذ صدور هذا القرار توقفت كليًا أعمال رفع الأنقاض التي كانت تشرف عليها “اللجنة المحلية” في المخيم، وبدأت تتلاشى آمال سكان “اليرموك” بالعودة إلى مخيمهم، خاصة مع الموجة الكبيرة من النهب والسلب للممتلكات الخاصة والعامة من قبل عناصر قوات النظام السوري واللجان والميليشيات الموالية له.
وأوضح أن “مجموعة العمل” رصدت قيام هذه العناصر بحفر شوارع المخيم بشكل واسع من أجل استخراج الأنابيب البلاستيكية وكابلات الهاتف والكهرباء وغيرها، لبيعها على شكل مواد خام وخردة، كما لوحظ عدم قيام السلطات المعنية بأي إجراء للحد من هذه الظاهرة، وهو الأمر الذي أدى إلى انهيار تام للبنى التحتية في المخيم التي كانت تعاني أصلًا من تعطل كبير في خدماتها.
ووجه حسين دعوته إلى الجهات الرسمية السورية للقيام بمسؤوليتها وحماية الأملاك العامة والخاصة للمدنيين، كما دعا الفصائل الفلسطينية والسفارة الفلسطينية إلى تفعيل دورها باتجاه الحفاظ على المخيم من الاندثار والزوال عن الخارطة، وهو ما يمثل مسؤولية تاريخية ستحاسبهم عليها الأجيال الحالية والمقبلة.
–
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :