عنب بلدي – يوسف غريبي
خسر تيسير منزله في بلدة حاس بريف إدلب الجنوبي، خلال التصعيد العسكري الأخير لقوات النظام على المحافظة، لكن ذلك ليس ألمه الوحيد، بل يُضاف إلى مرضه المزمن الذي يحتاج إلى العلاجات الدائمة، وعجزه عن إعالة ثلاثة أبناء.
بصوت متقطّع لا يقوى على الخروج من حنجرته، وصف تيسير اليوسف لعنب بلدي معاناته في إحضار علاجه الذي يعينه على استمرار حياته منذ أن كان في سن الـ12، فهو مصاب بمرض تشمع الكبد، ويحتاج إلى دواء “سيلامين” ليساعد خلاياه على طرح مادة النحاس التي تعطل كبده عن فرزها، وقال إنه في عام 1986 كان يحصل على دواء أجنبي تستورده الحكومة السورية بشكل مجاني، إذ كان والده يعمل في القطاع العسكري آنذاك.
ولكن منذ عام 2015 حتى اللحظة، تتفاوت أسعار الدواء لدى الصيادلة بشكل كبير، ومنذ نحو عام مضى كان سعر علبة الدواء 500 ليرة سورية، قبل رفعه إلى ثلاثة آلاف و995 ليرة.
وأضاف تيسير أن من يؤمّن هذا الدواء في مناطق سيطرة فصائل المعارضة يحضره من مناطق سيطرة النظام، ويضع عليه عمولة توصيل، ومن ثم المستودع الذي يخزنه يزيد عليها، لتصل إلى الصيدلاني الذي يضيف ربحًا على السعر الذي اشترى به الدواء، ليصل إلى تيسير نهاية بسعر خمسة آلاف و500 ليرة سورية.
وأما الآن، ومع التراجع الكبير في قيمة العملة السورية وملامستها حاجز 2000 ليرة للدولار الواحد، رُفع سعر علبة “سيلامين” إلى ثمانية آلاف، ويحصل عليها تيسير في منطقته بتسعة آلاف و500 ليرة، واصفًا أسعار الأدوية بـ”الخيالية جدًا منذ عيد الفطر”، أي منذ نهاية أيار الماضي.
“أنا مع عدم قدرتي على العمل يلزمني شهريًا مبلغ 42 ألف ليرة فقط للدواء، وأهل الخير يؤمّنون ثمنه لي.. لكن ذلك ليس دائمًا”.
“الرقابة الدوائية” تشرح أسباب اختلاف أسعار الدواء
تحدثت عنب بلدي إلى رئيس دائرة “الرقابة الدوائية” في مديرية صحة إدلب، مصطفى السيد الدغيم، عن أسباب تفاوت الأسعار ليحددها بثلاثة.
وقال الدغيم، إن السبب الأول لتفاوت هذه الأسعار هو قلته في السوق الدوائية، وصعوبة تأمينه، إذ إن أغلبية الأدوية المستخدمة في المحافظة هي أدوية صناعة سورية وتشكل 85% من مستهلكاتهم، و15% فقط من الدواء أجنبي مستورد.
والسبب الثاني هو تفاوت تكلفة نقل وتأمين الدواء من مناطق سيطرة النظام، ومع إغلاق جميع المعابر بين الأخيرة وإدلب، بسبب المخاوف من فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، تناقصت تلك الأدوية، وأصبح كثير من أصحاب المستودعات أو الصيدليات يخشون على رؤوس أموالهم، فهم يشترون ويبيعون بالعملة السورية التي تتراجع قيمتها.
وأكد رئيس دائرة “الرقابة الدوائية” أن هناك محاولات حثيثة وجادة يقومون بها، بالتعاون مع “نقابة الصيادلة” وأصحاب المستودعات ومستوردي الأدوية، لضبط أسعارها، ووضع تسعيرة جديدة تناسب دخل المواطن وقدرته الشرائية، وتناسب نوعًا ما أصحاب المستودعات والصيدليات، دون أن يوضحها.
وشدد الدغيم على موضوع المحاسبة للمتلاعبين بأسعار الأدوية، وأن ذلك سيدخل حيز التطبيق بعد اعتماد التسعيرة الجديدة لها.
لكن الصيدلاني العامل في إدلب أحمد العادل، أوضح أن “الرقابة الدوائية” ليست معنية بموضوع الدواء إطلاقًا، بل يتم التلاعب به من أول جهة تأتي به من مصادره.
هل للصيادلة دور في رفع الأسعار؟
قال تيسير إن سعر دوائه (سيلامين) يختلف من صيدلاني إلى آخر، فقد اشترى علبة منه بسبعة آلاف ليرة سورية، وبعد شهر واحد احتاج لأخرى لم يستطع ذات الصيدلاني تأمينها له، فاضطر لشرائها من صيدلاني آخر بتسعة آلاف.
وأرسل تيسير تسجيلًا صوتيًا إلى عنب بلدي لمحادثته مع صيدلاني لم يكشف اسمه، سأله فيها عن سعر الدواء، ليجيبه بأن سعره أصبح 15 ألف ليرة سورية، في حين سأل صيدلانيًا آخر وأجابه أن سعره 18 ألفًا.
الصيدلاني أحمد العادل قال لعنب بلدي، إن هناك عدة أسباب لاختلاف أسعار الأدوية، أولها وجود الدواء من عدمه، فإذا توفر لديه الدواء بالسعر القديم، فيمكن له أن يتحكم بنسبة ربحه منه ليبيعه بسعر منخفض، ولكن إذا لم يكن متوفرًا فسيشتريه بسعر مرتفع ويبيعه كذلك.
ما دور “الإنقاذ”؟
السبب الرئيس لتفاوت أسعار الأدوية برأي الصيدلاني أحمد العادل، هو الاحتكار الذي فرضته الجهة التي تعتبر المصدر الأول للأدوية (في إشارة إلى التجار المتحكمين بنقل الدواء دون تسميتهم)، وذلك عندما شعرت هذه الجهة بانقطاع الأدوية من المصدر (مناطق سيطرة النظام)، فأوقفت بيعها إلى المستودعات التي بدورها أوقفت بيعها إلى الصيادلة، على الرغم من توفرها لديها.
وأشار الصيدلاني أحمد إلى أنهم يعرضون الأدوية عليهم، ويريدون وضع أدوية غير مستهلكة مع الأدوية المطلوبة لدى الناس، وهذا سبب ثالث برأيه، لأنه كصيدلاني عندما اشترى صنفًا من الأدوية المطلوبة، أُجبر على أخذ أصناف أخرى معه غير مطلوبة.
ولذا سيضطر إلى رمي هذه الأدوية التي ليس عليها طلب، ويضيف سعرها الذي دفعه إلى سعر الدواء المطلوب، وبالتالي فإن المواطن هو الذي يتكبد الخسارة والعبء الأكبر.
من جانبه، اعتبر تيسير اليوسف الذي يعاني من تشمع الكبد، خلال حديثه مع عنب بلدي، أن المسؤول عن ارتفاع سعر الدواء في مناطقهم هو حكومة “الإنقاذ”، نافيًا وجود رقابة على الصيادلة أو المستودعات الدوائية.
ومن وجهة نظره، يُفترض أن تتحكم “الإنقاذ” بهم كونها المسيطرة على مناطق عملهم، وذلك بالذهاب إلى الصيدليات وتحديد سعر الأدوية، واصفًا الحال بقوله “في البدايات خرجنا رفضًا للظلم لنتفاجأ بظلم أكبر”.
الجهات المسيطرة والحاكمة تتنصل
“هيئة تحرير الشام”، القوة العسكرية المسيطرة في مناطق شمال غربي سوريا والتي تُتهم حكومة “الإنقاذ” بالتبعية لها، نفت على لسان مسؤول التواصل فيها، تقي الدين عمر، مسؤوليتها عن تخبط وارتفاع أسعار الدواء في إدلب، وقال لعنب بلدي عبر مراسلة إلكترونية، إن الجهة المعنية هي حكومة “الإنقاذ”.
وحول الأمر، أجاب معاون وزير الصحة في حكومة “الإنقاذ”، محمد عساف، عن تساؤلات عنب بلدي بالقول، إن السبب الرئيس لارتفاع سعر الدواء هو خروج معامل الأدوية في منطقة المنصورة عن سيطرة الفصائل.
ورغم وجود مخزون دوائي كبير فإن المخزون بدأ ينفد، ومع توقف شحن الدواء عبر المعابر التي كانت موجودة سابقًا مع مناطق النظام، زادت أسعار العقاقير الطبية.
المسؤولان أشارا إلى اجتماع جرى مؤخرًا بين “كل المعنيين بالمجال الصحي”، “نقابات صيادلة إدلب وحلب”، و”نقابة الأطباء”، و”هيئة المخبريين”، و”وزارة الصحة” في حكومة “الإنقاذ”، ومديريات الصحة، وأصحاب مستودعات الأدوية الخاصة والعامة.
وكان هذا الاجتماع وفقًا لكلامهما، بعد أن رفعت مستودعات الأدوية الخاصة مؤخرًا تسعيرة الدواء من نسبة 100% إلى 125%، مع توقف عدة مستودعات عن توزيع الأدوية.
الأمر الذي استدعى من وزارة الصحة في حكومة “الإنقاذ” طلب عقد هذا الاجتماع، و”كان معظم اهتمامهم يتركز بشكل واضح على التخفيف على الناس بما يتعلق بالأدوية، وكذلك الأمر بتسعيرة الكشوف الطبية”.
وخرج الاجتماع بـ”إلغاء قرار المستودعات، وتحديد الزيادة بـ75% كحد أقصى بدلًا من 125%، وهي تشمل أجور الشحن المرتفعة عبر مناطق شمالي حلب، وتعهد المستودعات الخاصة بإعادة توزيع الدواء على الصيدليات، وعدم احتكاره”
كما اتفق المجتمعون بحسب معاون وزير الصحة في حكومة “الإنقاذ”، محمد عساف، على تشكيل “لجنة عليا للأمن الدوائي” مهمتها دراسة جميع الحلول الممكنة لتفادي النقص في كميات الأدوية.
لكن تيسير اليوسف، مريض تشمع الكبد، وغيره من المرضى في إدلب الذين يحتاجون إلى علاجات دائمة، لم يلمسوا بعد أي تحسّن يقلل من معاناتهم، بينما لا تساعدهم الأوضاع الاقتصادية والظروف المحيطة على الأمل بواقع دوائي أفضل بكثير على المدى القريب.