نبيل محمد
عزلة لا ترتبط بزمن العزلة الحالي الذي تفرضه ظروف صحية طارئة حلّت بأغلبية بلدان العالم، إنما هي عزلة سورية المعالم، تباعد اجتماعي يفرضه الظرف الخاص، يجد فيه الفرد السوري اللاجئ نفسه مفعمًا بفوضى العواطف والأسئلة والذكريات التي تنظّم نفسها داخله، لتمنحه صفات تطغى على شخصيته، لا يمكنه إخفاؤها مهما حاول ذلك، سيشعر مرات عدة في كل يوم أنه “ليس هنا”، هو في مكان ما في منتصف الطريق بين واقعه المعاش، وواقع من تركهم خلفه في بيت عائلته، فلا عاش ظرفه الآني بشكل كامل، ولا استطاع أن يرى من يشتاق. “أنا لست هنا” جملة يمكن أن يقولها كثيرون، تبدو ساذجة ومكررة وتنتمي إلى أدبيات شعرية كلاسيكية أكل الزمان عليها وشرب، لكنها حاضرة في حيوات فئة كاملة ممن هم “هنا”. هذه الجملة هي اسم فيلم قصير سوري، ليامن عبد النور، الذي قدمه كمشروع تخرج من المعهد العالي للسينما في القاهرة عام 2019.
وحدة كانت مفروضة على بطل الفيلم ومخرجه، صاغها ظرفه كسوري موجود في زمن يعيش فيه أهله بمنطقة تتعرض للقصف في سوريا، فيعيش يومياته مجزأة بين ثلاثة أفعال محورها عزلته هذه، أولها مناماته المتكررة التي ينادي فيها أمه ووالده وأفراد عائلته، فيسمع خبر وفاة والده بصوت أمه الذي جاءه عبر الهاتف في المنام، فينهض ليكلّم والده ويطمئن أنه ما زال على قيد الحياة. الفعل الثاني هو متابعة الأخبار والتدخين، والاطمئنان من شاشات التلفزة على أن القذائف التي تهاطلت اليوم على رؤوس السكان في سوريا لم تستهدف حيه بعد، والثالث هو عمله وفق ما يبدو في استديو إذاعي، منعزلًا في غرفة الاستديو الضيقة يسجّل فيها “فويس أوفر” لما يبدو أنه محتوى ثقافي، فيتواصل من داخل الاستديو مع مشرف الصوت أو المخرج عبر الميكروفون.
خيارات الشاب الهادئ المضطرب، كي لا يكون معزولًا، خيارات متاحة، فجلوسه على شاطئ البحر لا يخلو من جلوس فتاة جميلة بالقرب منه، منحته ابتسامة يمكنه أن يستغلها للخلاص من عزلته هذه، هناك ناس قادرون على التواصل الاجتماعي وبناء العلاقات حوله، لكن حاجز الانتظار اليومي والقلق، والذاكرة، يمنعه من الانعتاق حتى بشكله المؤقت.
يرن هاتفه بعد انتظار طويل لسماع نبأ عن أهله الذين تركوا المنزل جراء قصفه، ولجؤوا عند أقاربهم حيث لا يتيح التيار الكهربائي لهم تواصلًا جيدًا مع ابنهم، فيخرج مسرعًا من الاستديو ليرد ويصرخ إذ يتقطّع الصوت القادم من سوريا، يحاول الحصول على أكبر قدر من الاطمئنان بأقل وقت متاح، ويطرح كبرى آماله كمَخرَج لأهله من هذه الأزمة بأن ينتقلوا إلى بيت أقاربهم في لبنان، فينقطع الاتصال، ليعود مضطربًا إلى العمل. مشهد علَّ مئات آلاف السوريين عاشوه، لسنوات طويلة. بات أحد أسباب اضطرابهم العصبي والعاطفي وتوترهم اليومي هو انقطاع الاتصالات مع الأهل في الداخل نتيجة سوء الخدمات.
لا شمس مشرقة يمكن أن يراها من أدمَنَ الانتظار بجانب “موبايله”، سيكون كل شيء معتمًا حوله، لعلها أكثر قضية لم يهملها الفيلم البسيط المقتضب، حيث تعج الأمكنة التي يوجد فيها الممثل الوحيد برمادية الضوء، والإعتام المتكاثف بين مكان وآخر، سواء في المواقع الداخلية أو الخارجية القليلة التي دارت فيها كاميرا الفيلم.
يُختَتم الفيلم بالانكسار الداخلي اليومي الذي يعيش فيه هذا اللاجئ، حيث يفتح باب بيته المعتم ليترك خلف ظهره الباب مفتوحًا فيجلس على أقرب كرسي إلى الباب ويتنهّد، هو بابٌ لا يمكن إغلاقه، ذاك الذي فتحه شاب سوري وخرج لاجئًا، باب عصيّ على ألا تقف أمامه كل يوم وتحدّق.