كتب المسرحي الروسي أنطون تشيخوف آخر مسرحياته “بستان الكرز” بمزاجه الكوميدي- التراجيدي في أربعة فصول، كما جميع مسرحياته باستثناء مونولوج “حول مضار التبغ” و”الدب- مزحة” فهما من فصل واحد.
ترتكز المسرحية على بستان الكرز الكبير الذي قُدرت مساحته، استنادًا إلى كلام شخصية “لوباخين” في بداية المسرحية، بـ2500 ملعب لكرة القدم، فهو مفخرة المدينة، ولكن تفاقم الديون يجعل بيعه أمرًا محتومًا، ولا مفرّ لصاحبته السيدة “ليوبوف” من أن تتنازل عنه، تلك المرأة التي عادت إلى روسيا بعد أن عاشت خمس سنوات في باريس، “مخرومة الجيب”، مصدومة من علاقة غرامية مدمرة، ومفلسة، وهي تدرك أكثر من سواها أنها أعجز من أن تسدد ديونها في الآجال المحددة.
المرأة ومن معها يتصرفون وكأن معجزة ستأتي، وكأن بستان الكرز ممتنع على غير أهله، جميعهم يغفلون عمدًا عن القضية الجوهرية وهي تسديد الديون، ويخوضون في مواضيع أخرى، وهي الطريقة التي يتبعها تشيخوف في الغالب ليصور تعلّق الناس بمواضيع مجردة للهروب من مواجهة الواقع.
يبلغ هذا الهروب ذروته في الفصل الثالث، فبينما كان الجميع ينتظرون “غاييف”، أخ “ليوبوف”، و”لوباخين” العائد من عملية البيع، تشهد الشخصيات آخر حفل راقص في بيت العائلة التي تمتلكه على امتداد أجيال متعاقبة.
الحفل الراقص في بيت العائلة، كما أراده تشيخوف، ممتدًا في الفضاء المكاني والزمني كحفل شعائري لتوديع البيت والبستان نهائيًا بلا رجعة، ذلك البستان الذي كان بمثابة المكان المقدس لأصحابة.
واقتراح “لوباخين” على أصحاب البستان بيعه لتسديد ديونهم المتراكمة، يكون مثل تدنيس لقدسيته، وهو ما يعلن عنه منذ الفصل الأول للمسرحية، لتعمل الفصول التالية على جعله حقيقة ملموسة، أي إن كل شيء يجري وكأن ضياع الملكية ناتج عن قدر محتوم لا يقاومونه ولا يتمردون عليه، لتظهر “ليوبوف” في مظهر الشخصية التراجيدية، إذ تتحدث دائمًا عن العقاب الذي تجازى به نتيجة خطاياها.
والنزاع بين “ليوبوف” و”لوباخين” هو صراع قيم تتساوى من حيث شرعيتها ومبرراتها، وفق تدرج الأحداث التراجيدية في فصول المسرحية.
كما توجد في المسرحية مشاهد كوميدية كسلوك “بيشتشيلك” الذي يبتلع أقراص “ليوبوف” وينام في عز الكلام، أو “فانيا” التي أرادت ضرب “إيبيخودوف” بخيزرانة فأصابت من يحاذيه، وبعض الخدم، كـ“دونياتشا”، لهم سوء طبع يذكّر بشخصيات الكوميديا الكلاسيكية.
ولد أنطون تشيخوف في عام 1860، وهو طبيب وكاتب مسرحي ومؤلف قصصي روسي ينظر إليه على أنه من كبار الأدباء الروس. كتب المئات من القصص القصيرة التي اعتُبر كثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، كما أن مسرحياته لها أثر على الفن الدرامي والسينمائي.
بدأ تشيخوف الكتابة عندما كان طالبًا في كلية الطب بجامعة “موسكو”، واستمر في مهنة الطب، وكان يقول “إن الطب هو زوجتي، والأدب عشيقتي”.