نبيل محمد
ينشر المخرج نجدة أنزور مقاتليه ذاتهم، وجنود الخلافة الملتحين ذاتهم أيضًا، بين أربعة أفلام لا تختلف بمضامينها ورسائلها وأسلوبيتها ومباشرتها الفجة ورمزياتها المكرورة وممثليها وكوادرها، ليترجم جلسات “مجلس الشعب” التي طالما كان صوتًا مرتفعًا بانتمائه للشكل الديمقراطي فيه، لدرجة أنه كاد أن يصبح رئيسًا له، عن طريق اختصاصه الفني، فكما تبدو المعركة، وفق رؤية البرلمان السوري، جنودًا أبطالًا يواجهون التكفيريين الوحوش، تبدو أيضًا في أربعة أفلام قدمها أنزور خلال السنوات القليلة الأخيرة، وأتاحتها للمشاهدة عبر الشبكة مبادرة “السينما في بيتك” التي أعلنتها المؤسسة العامة للسينما، خلال أيام الحجر الصحي.
من سجن حلب المركزي إلى تدمر فغوطة دمشق تنتقل معارك أنزور السينمائية، بين شرائط “فانية وتتبدد”، و”رد القضاء”، و”دم النخيل”، و”رجل الثورة”، سينما تقدّم دعاية سياسية مباشرة خطابية في مجملها، سطحية في طريقة طرحها، لدرجة أن وضوح السياسي المباشر فيها، ألغى حتى تلك التفاصيل الفنية التي اعتاد أنزور على توظيفها لخلق أي حركة موازية للفكرة، مثلما كان يصنع في بعض الأعمال الدرامية الشهيرة له، التي بالتأكيد لم تستطع بكل مشكلاتها ومبالغاتها الدرامية سابقًا، أن تظهَرَ ملامحها في منتوج المخرج السينمائي.
فعلى الرغم من أن بعض قصص تلك الأفلام كان يمكن لمخرجها روايتها بطريقة لا تختلف كثيرًا عن روايته لـ”الجوارح” أو “الكواسر” مثلًا، لم يستطع خلق ابن الوهاج أو ابن الرومية أو شقيف في أي منها، لقد كانت كل الشخصيات ابنة حكايات “البعث” بلغتها الرثة التي يرويها للشعب قبل النوم.
أصحاب اللحى في “فانية وتتبدد” يوزعون السبايا على مقاتليهم ويتيحون لهم الاتجار بهن، ويعذبون النساء بطريقة بشعة، ويسيل لعابهم فوق ذقونهم القميئة عند رؤية فتاة بعمر العاشرة، تواجههم دائمًا الروح الوطنية المؤمنة بالعدالة والقادرة على قراءة الإسلام بشكل صحيح، وستتوفر بالتأكيد تلك الروح في المقاتل السوري البطل، الذي أنجبته أم بطلة تدرك تمامًا المخطط الذي رُسِم لتدمير هذا البلد المعطاء الجميل.
الملتحون ذاتهم تقريبًا مع اختلاف أطوال لحاهم، موجودون في الغوطة الشرقية في فيلم “رجل الثورة”، يمتهنون الكذب، وتلفيق المجازر وإلصاقها بالنظام البريء، المستهدف من كل العالم، حتى إن مجزرة الكيماوي في الغوطة كانت فكرة صحفي بريطاني، جاء بها إلى عقول أمراء الفصائل الإسلامية في الغوطة، علَّه إذا أقنعهم بتنفيذها يستطيع تصوير صورة تنال جائزة “البوليتزر” العالمية للصور الصحفية.
“دم النخيل” موسم من مواسم أنزور السينمائية، التي يبدو أن لها ما لها من تقييم عالٍ في المؤسسة العامة للسينما الشهيرة ببخلها مع المخرجين، وبحصر إنتاجها بعدة أسماء بات أنزور واحدًا منها، ليتقاسم مع جود سعيد وعبد اللطيف عبد الحميد حصة المُنتَج، ويتركوا للباقين ما لا يتيح لهم الوقت إنجازَه. في “دم النخيل” هذا، يبدو الصراع بين حماةِ الثقافة والحضارة أحفاد زنوبيا، وبين مدمريها أصحاب الرايات السود، ودور العملاء خونة الوطن في إراقة دماء أبناء الأبجدية الأولى. المباشرة هنا تخوض عميقًا لدرجة أن الفيلم عندما أُطلق أُلغي وأُعيد إلى معامل المونتاج مرة أخرى، بسبب إلصاقه تهمة الخيانة بعسكري من السويداء، ما فُهم على أنه تخوين للمكون الدرزي كاملًا. تُظهِر هذه الحادثة أن المباشرة التي ارتكبها أنزور فاقت المتوقَّع.
مقاتلو “دم النخيل” يظهرون في “رد القضاء” بين جيش وشرطة، يعاملون السجناء في سجن “حلب” المركزي أفضل مما يعاملون أبناءهم، يطعمونهم أكثر مما يأكلون، يشعلون لهم النار وهم يبردون، فالقضية هنا ليست من هم خلف القضبان ومن هم حملة مفاتيح الزنازين، بل إنها قضية وطنية كبرى عليهم الصمود فيها، لرد العدوان التكفيري القابع على بعد أمتار من السجن، الذي يظهر كقلعة للصمود، ومقبرة للأعداء.
لا شك أن إجرام “داعش” كان أنجح وأكثر حقيقية بكاميرا التنظيم ذاته، وبأفلامه التي واكبت عشرات العمليات الوحشية التي ارتكبها، ولا شك أيضًا أن مجازر النظام السوري كانت “لايف” ولا يمكن لشاشة سينمائية حجب معالمها، من التعذيب في السجون إلى استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا، ولا شك أمام هاتين الحقيقتين أن سينما أنزور التي هي أكثر ما يغدِق عليه النظام أموالًا في المجال الفني، هي الرواية الرسمية لكل ما يجري، عن طريق إعادة تمثيل الجريمة ذاتها انطلاقًا من وجهة نظر المجرم عن نفسه.
لا شيء يفعله المجرم سوى إتاحة أرض الجريمة للكاميرات التي يحدد لها أبعاد حركتها، والإتيان بكُتَّابه ومخرجيه، وإعطائهم ما وفّره الجند من قذائف، لإطلاقها افتراضيًا ورسم المشهد.