إبراهيم العلوش
جاء المندوب الرئاسي الأمريكي، بول بريمر، إلى العراق عام 2003 لاستكمال تدمير ما لم تستطع الطائرات الأمريكية تدميره، فهل عيّن بوتين مندوبه الرئاسي قبل أيام لاستكمال أعمال الاحتلال الروسي لسوريا، وإعادة تشكيل نظام الأسد وفق ما تقتضيه المصالح الروسية؟
حملة إعادة تشكيل النظام السوري بدأت مع الاتفاق التركي- الروسي في إدلب، في آذار الماضي، وكان الاتفاق الذي حظي بموافقة أمريكية ضمنية، بمثابة تعويض للروس عن فشل مبادراتهم ومؤتمراتهم ودساتيرهم التي نظموها من أجل تجميل وجه النظام، ومحاولات إعادة تأهيله من أجل الحصول على أموال إعادة الإعمار وتعويض الخسائر الروسية، بالإضافة إلى محاولاتهم تجميل وجه التدخل الروسي في سوريا، الذي ارتبط بتدمير المستشفيات، والمدارس، واستعمال الغازات الكيماوية، وحراسة معتقلات التعذيب، ونهب ما يمكن نهبه من الفوسفات والغاز والموانئ والقواعد العسكرية.
بعد ذلك الاتفاق، اكتشفت وسائل الإعلام الروسية فجأة أن الأسد فاسد، ونظامه عبارة عن مافيا سياسية واقتصادية، وأن الأسد لا يتنازل من أجل المصلحة العامة الروسية، ولا يبادر إلى إعادة بناء دولة جديدة لتتوافق حتى مع المؤيدين المعتدلين.
بعدها بدأ مسلسل رامي مخلوف وأعماله الخيرية التي يديرها عبر جمعياته، وفي أجهزة المخابرات التي كان يتصدق على ضباطها وعناصرها من أجل إتقان عملهم في التعذيب والتنكيل بالسوريين، ووصلت آخر مبادراته قبل أيام إلى تحايل جديد هو التنازل عن أملاكه المحجوزة لمؤسسة “راماك للأعمال الخيرية”، وهي في الأصل مؤسسة كانت تنهب السوريين في المطارات.
وفي أثناء هذا المسلسل، تسابق أولاد رفعت الأسد، نبال ودريد وفراس، في كيل الشتائم لرامي مخلوف ولأبيه محمد مخلوف، ووصفهم فراس بأنهم مجرد برغش أو أقل من البرغش، وأغضبهم تجرؤ رامي على مقام عائلة الأسد بنشر الفيديوهات، ودعوه لأن يكون نبيلًا مثل رفعت الأسد الذي تنازل وترك سوريا لتبقى بيد حافظ الأسد وحده، بينما آل مخلوف يرفضون التنازل ويعرّضون زعامة عائلة الأسد للإساءة، ودعا نبال رفعت الأسد إلى أن يلتف الشعب السوري حول أبيه رفعت الأسد! وهو للتذكير بطل مجازر حماة، ومذبحة سجن “تدمر”، وقائد سرايا الدفاع سيئة الصيت.
وفي أثناء هذه الأحداث الدرامية، أطلق المرشد الإيراني صورة للزعماء والقادة الذين سيصلّون قريبًا في القدس، ولم يكن بشار الأسد في الصفوف الأولى، وبدا مغمورًا وغير مقرّب أبدًا.
وآخر المستجدات كان تعيين ألكسندر يفيموف مبعوثًا رئاسيًا لبوتين في سوريا قبل عدة أيام، وهي خطوة تعيد السوريين إلى أيام المندوب السامي الفرنسي قبل مئة عام، وإلى بول بريمر قبل أقل من عقدين.
لكن العقبة الإيرانية هي الأهم أمام المندوب السامي الروسي، وأمام أحلام الروس بالبقاء الأبدي في سوريا باعتبارها ساحة تجريب للأسلحة ضد المدنيين، ومجالًا لتدريب الجيش الروسي على الجيل الرابع والخامس من الحروب.
ولم يتمكن الروس ولا الإسرائيليون من إخراج إيران و”حزب الله” من سوريا، ويبدو أن كل الاطراف صارت مقتنعة بأن تحجيم الوجود الإيراني في سوريا صار هو الهدف الممكن، لاستحالة إخراجهم من سوريا ما داموا أقوياء في العراق، وقادرين على تسريب القوات والأسلحة عبر أراضيه التي تخضع للهيمنة الإيرانية- الأمريكية، وقد يقيم الروس اتفاقًا مع الإيرانيين للتعايش في سوريا على الطريقة التي يتعايش فيها الإيرانيون مع الأمريكيين في العراق.
المحللون الاقتصاديون، ومنهم الأستاذ يونس الكريم، يقولون إن الخطوة الروسية هذه تهدف إلى حماية المصالح الاقتصادية الروسية في سوريا، وعدم الانقلاب على المعاهدات التجارية كما حدث مع رامي مخلوف أو في بعض الاتفاقيات مع إيران، إذ هدد نائب رئيس “مجلس الشعب”، خالد العبود، باعتبار الروس محتلين وتجب مقاومتهم إذا تكررت الإهانات للرئيس بشار الأسد رمز النظام، وكما هدد أيضًا بهجت سليمان روسيا في عريضة موقعة من أتباعه أو ممن أجبرهم على التوقيع، وحثها على عدم التمادي في التهجم على رمز النظام بشار الأسد.
وفي المقابل، لم تقم أي حملة لا من قبل بهجت سليمان ولا من قبل “مجلس الشعب”، ضد الصورة التي نشرها خامنئي ووضع فيها بشار الأسد مهملًا ونائيًا.
المحللون السياسيون، ومنهم الأستاذ محمد صبرا، يقولون إن تضارب المصالح ضمن أركان النظام الروسي هو السبب في تعيين مبعوث رئاسي، فالملف السوري انتقل من وزارة الخارجية، التي يديرها سيرغي لافروف، ويشكل ركنًا من أركان الحكم، إلى وزارة الدفاع، التي يديرها سيرغي شويغو، ويشكل ركنًا آخر، ومن ثم ركن رئيس الوزراء الروسي.
وهذا يعيدنا إلى تاريخ التدخل الروسي عندما التف الشبيحة يهتفون حول سيارة سيرغي لافروف في زيارته الأولى إلى النظام، حينما أعلن عداءه الاستفزازي لمطالب الشعب السوري وإطلاقه لمقولات طائفية لمغازلة إيران، ولكنها كانت غير لائقة. وفي الطور الآخر كانت زيارة نائب رئيس الوزراء الروسي عام 2018 مع وفد كبير يمثل التجارة والمالية والصناعة، ومطالباته للنظام بتحصيل الأموال الروسية، وبعدها صار وزير الدفاع هو الذي يحمل الرسائل إلى النظام، وهو من يصرّح في الشأن السوري عسكريًا وسياسيًا وتجاريًا في المرحلة الأخيرة.
ولكن المندوب الرئاسي الروسي قد تكون لديه مهمة تُكمل الاتفاق الروسي- التركي، والأمريكي ضمنًا، وهي تفكيك نظام الأسد من داخله تجنبًا لمصير أمريكا في العراق الذي فاقمه دور بول بريمر العشوائي والانتقامي، وتجنبًا لمصير روسيا في أفغانستان الذي تسببت به العنجهية السوفيتية، وربما يتحتم عليه محاولة تشكيل نظام جديد أكثر قبولًا من قبل السوريين، ومن قبل المحيط العربي، ومن قبل المجتمع الدولي، وأكثر التزامًا بالقرار الأممي 2254، وهذا الالتزام قد يُطلق ماراثون الاتفاق الدستوري والتوافق الداخلي السوري، وقد يجنب الروس الغرق في المستنقع السوري، كما يهدد بذلك جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي إلى سوريا.
أما السوريون فإنهم يصرّون على إسقاط مافيات نظام الأسد، ويريدون السلام والعدالة ودولة المواطنة، وهم لن ينسوا أبدًا من يساعدهم للوصول إلى برّ الأمان.