فشل الكرملين السوري
بعد أقل من شهر على نشر مواقع “طباخ بوتين” يفغيني بريغوجين الإعلامية سلسلة مقالات “اكتشفت” كهوف فساد النظام السوري ، ووصفت الأسد ب”العاجز” عن إدارة السلطة ، تراجعت هذه المواقع عن اتهاماتها تلك، ونشرت نقيضها تماماً . في مقالة بعنوان ” العمليات العسكرية لا تمنع الرئيس السوري الأسد من استنهاض البلاد” ، نقلت “وكالة الأنباء الفدرالية” التابعة لبريغوجين عن خبير روسي تساؤله المعجب بقدرات الأسد على استنهاض سوريا بفترة قصيرة ، يهتم خلالها بمؤسسات الدولة والقضاء على الإرهابيين وإعادة المهجرين .
منشورات “الطباخ” ، التي تراجعت عنها مواقعه قبل أقل من شهر على نشرها ، كانت قد أثارت موجة عارمة من ردود الفعل واتهامات الكرملين بالوقوف وراءها. وكان إعلام الكرملين قد نأى بنفسه في حينه عن هذه المنشورات ، ولم يتطرق إليها من بعيد أو قريب . إلا أنه سرعان ما وجد نفسه منخرطاً في الرد على ما خلفته هذه المنشورات من تأكيدات على خلاف مستحكم بين دمشق وموسكو ، وعن قرب إستقالة الأسد بضغط من الكرملين . وكالعادة ، قامت مواقع الكرملين الإعلامية الكبرى ، مثل تاس ونوفوستي ، بإستصراح خبراء ودبلوماسيين نفوا شائعات إستقالة الأسد ووجود خلافات بين موسكو ودمشق . فقد نشرت تاس الأحد المنصرم ، نقلاً عن “مهر” الإيرانية ، تصريحاً للسفير الروسي في طهران ليفان جاغاريان ، قال فيه بأن ثمة من يستغل القول بأن روسيا مستاءة من الأسد ، علماً أن هذه التصريحات (منشورات الطباخ) هي تصريحات خاصة ، لا تعكس موقف الحكومة الروسية الرسمي. واضاف بأن روسيا سوف تستمر في دعم العملية السلمية في سوريا وحكومة البلد الشرعية ، ومستقبل سوريا هو ملك شعبها ، وبوسعه هو فقط أن يتخذ القرار بشأن بلده . ولم ينس السفير ، بالطبع ، الإشادة بجهود أطراف منصة أستانة ، إذ “بفضل جهودنا الثلاثية أمكن وقف العمليات العسكرية وبدء المفاوضات” .
من جهتها كانت نوفوستي قد استبقت تاس بنشر تصريح للسفير الروسي السابق في دمشق الكسندر زوتوف ، لم يختلف في مضمونه عما جاء في تصريح زميله في طهران ، تحدث فيه عن استغرابه لشائعات استقالة الأسد القريبة . لكن اللافت كان نشر الوكالة ، في سياق النص عينه ، تصريحاً لأحد المحاضرين في معهد العلوم الإجتماعية التابع لأكاديمية العلوم الروسية ، تميز بلهجته الحادة ضد الأسد . فقد قال المحاضر دانيال ديميدنكو ، أن استقالة الرئيس السوري المحتملة ليست مستغربة ، فالأسد ، ومنذ مطلع “الربيع العربي” في العام 2011 لم يكن شخصية مريحة . فهو لا يتقبل المعارضة ، ولا يتقبل الأكراد ، الذين يسيطرون على ما وراء الفرات بأكمله ، وهو ليس مقبولاً من الولايات المتحدة ومن حكام الخليج . والحديث لا يتناول الأسد كشخصية سياسية ، بل يتناوله كرمز للحكم السابق ، كرمز لحزب “البعث” ، كرمز لاضطهاد الأكراد ، كرمز لذلك النظام الذي قامت الإنتفاضة ضده ، حسب ديميدنكو، الذي اعتبر أن استقالة الأسد ستكون منطقية ، لولا غياب الشخصية التي تحل مكانه. ويستطرد الرجل بالقول ، أن الأسد هو الذي يعرقل التسوية الآن ، كما كان يعرقلها منذ العام 2011 ، وموسكو أعلنت غير مرة ، أن القضية ليست في الأسد ، بل في تسوية الوضع في سوريا ، وهو لا يعتقد أن “موقفنا قد طرأ عليه تغيير مبدئي الآن” .
صحيفة الكرملين “”vz ، التي صمتت طيلة الشهر المنصرم عن منشورات إعلام “الطباخ” وردود الفعل عليها في معظم صحف العالم ، لم تتأخر الآن عن الإدلاء بدلوها الإثنين المنصرم في سياق مقالة بعنوان “سيتعين على موسكو تذكر الشرق الأوسط” . قالت الصحيفة في مقالتها بأن الوضع في الشرق الأوسط سيلتهب هذا الصيف ، وعلى موسكو أن تعمل ليس إطفائياً فحسب ، بل قد يتعين عليها تعلم “مهن جديدة مفيدة” ، من دون أن تذكر من المهن تلك غير مهنة “مصلح الشرق الأوسط” ، التي اعتاد الكرملين أن ينسبها لنفسه.
وبعد أن تستهل الصحيفة مقالتها بالحديث عن “صفقة القرن” ، وعن إستفادة روسيا منها ، كيف ما انتهت إليه هذه الصفقة ، تقول بأن المرجل السوري لا يزال يغلي ، والسبب ليس في العمليات العسكرية الدائرة بين السلطة والمعارضة ، التي “لم يُجهز عليها” بعد ، بل السبب في الوضع المعلق للعمليات السياسية وعدم إنجازها . وبعد أن تستطرد في سوق الإتهامات لتركيا بوضع الحطب تحت المرجل السوري ، تقول بأن تركيا ، مع ذلك، ليست هي “وجع رأس” موسكو الرئيسي ، بل العقبة الأكثر جدية في طريق “إنجاز نصر روسيا النهائي” في سوريا موجودة في دمشق . والشائعات التي تنشط في الأيام الأخيرة حول البرودة الشديدة في العلاقات بين دمشق وموسكو ، يتداولها صحافيون غربيون وخبراء روس يخدمون مصالح السعودية ، لكن يتداولها أيضاً خبراء جد أكفاء ، حسب الصحيفة .
وعلى الرغم من أن الرسميين الروس ينفون هذه الشائعات بالطبع ، ويصفونها بالمؤامرات الغربية ، إلا أن “لا نار بلا دخان” ، وهذه النار تشتعل منذ فترة بعيدة ، حسب الصحيفة . لدى روسيا والأسد نظرات مختلفة إلى عملية التسوية السياسية في سوريا . فالأسد ، وكذلك من يقف وراءه من الضباط السوريين والإيرانيين ، ليسوا مستعدين “للمصالحة” مع الإرهابيين المعتدلين (هكذا في نص الصحيفة) ، الذين فجروا الحرب الأهلية ، كما ليسوا مستعدين لتقديم تنازلات لهم ، وكيف بالأحرى دمجهم (ومن يقف خلفهم من الأتراك والسعوديين) في نظام حكم البلاد .
أما روسيا ، فهي تحاول أن تبين ، أنه لا يمكن إنهاء الحرب الأهلية دون المصالحة والتنازلات ، إلا أنها لم تنجح حتى الآن ، مما يعني أنها مضطرة لمواصلة الحملة السورية ، لأنها التزمت بإجراء العملية السلمية ، ولأنها لا ترى ما يمكن خشيته من وجود مصالح بلدان مختلفة في سوريا . ويبدو للصحيفة ، أنه تجري الآن في سوريا عملية تسوية سياسية جدية لجميع التناقضات ، وسيتضح في الصيف بما ستنتهي إليه هذه العملية .
لكن من الذي يمنع الكرملين من “إنجاز نصر روسيا النهائي” في سوريا ، ويلزمه بمواصلة العملية العسكرية في سوريا “لحل جميع التناقضات” خلال الصيف القادم ؟ الخبيران الروسيان أنطون مارداسوف وكيريل سيمينوف المرحب بهما في معظم المواقع الناطقة بالروسية ، بما فيها موقع “المجلس الروسي للعلاقات الخارجية” ، نشرا في 15 من الجاري في موقع “Riddle” المستقل والناطق بالروسية والإنكليزية ، ويتشكل مجلس أمنائه من خبراء وأكاديميين روس وغربيين ومن دول البلطيق ، مقالة مشتركة بعنوان “روسيا من دون الأسد” (وكأن الكاتبان يكرران بعنوانهما هذيان خالد العبود). يستعرض الكاتبان في مقالتهما التطورات خلال الشهر المنصرم على منشورات “الطباخ” وسيد مرتزقة “فاغنر” ، ويعتبران أنها مجرد تناقض مصالح بين يفغيني بريغوجين والنظام السوري، كما يعتبران مقالة الكسندر أكسينيونك ، نائب رئيس المجلس الروسي ذاك ، التي تداولتها معظم صحف العالم ، بأنها رأي شخصي تزامن نشره مصادفة حينذاك مع نشر مقالات إعلام الطباخ.
يقول الكاتبان ، أن الدبلوماسيين والعسكريين الروس ، الذين يتلطون وراء الكلام عن خيار الشعب السوري وضرورة الحفاظ على مؤسسات السلطة ، يقومون بتقليد للعملية السياسية لتسوية الصراع السوري ، ويضعفون المعارضة في ظل تعزيز شخصية الأسد . فهم يدركون أنه طالما بقيت أسرة الأسد في السلطة ، تصبح مستحيلة أية إصلاحات جدية . وأهم ما في الأمر ، برأيهما ، أن روسيا ، وخلال السنوات التي انقضت على انخراطها في العملية العسكرية ، قد عجزت عن مأسسة وجودها في سوريا ، إذ عجزت عن إيجاد قوى مخلصة لها كلياً ولوبي سياسي مؤثر ، يمكن لموسكو أن تستند إليه ، وهي تدفع دمشق نحو هذه الخطوات أو تلك .
ويخلص الكاتبان للقول ، أن عودة روسيا إلى الشرق لأوسط مع حملتها العسكرية ، تهدد بأن تتحول بالنسبة للموسكو ، إلى مأزق “شرق أوسطي” إذا لم تستخلص من كل مسار التطورات السورية الاستنتاجات الضرورية ، ولم يتم تصحيح التعاون مع الأسد ضمن الإمكانيات المتبقية ، التي تضيق باستمرار .
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :