روح ديرالزور يخنقها وشاح أسود.. وفنونها تؤول إلى ركام
سيرين عبد النور – ديرالزور
عنّفها وهدّدها بالضرب وبتكسير أصابعها بحال عادت لمثل هذا الفعل؛ لم تعِ سمر ذات الاثني عشر ربيعًا ما اقترفت أناملها الغضة ليكون ذلك جزاءها، وامتنعت عن الذهاب إلى المدرسة ثانيةً، فقد أثارت رسومات على دفترها المدرّس المنتمي إلى تنظيم «الدولة»
«لا تدرك سمر أن الرسم جرم يحاسَب عليه في أرض الخلافة، والخطوط الملونة فعل يستحق العقاب»، تقول والدتها، وهي مهندسة مدنية مغرمة بالفن التصويري، كما تعرّف عن نفسها؛ لذا تحاول تعليم أولادها في المنزل، وإبعادهم عن «جو الكراهية الذي تعززه مناهج التنظيم».
كذلك يرى حسان، مدرّس سابق في أحياء ديرالزور المحررة، أن المدينة تعيش «زمن التنظيم الذي تنفطر من بطشه القلوب وتزيغ من أفعاله الأبصار؛ وتتطاير الرؤوس»، وإذ وشّح سواد شعارات التنظيم وأحكامه المدينة، طاغيًا على ألوانها، يقول حسان «لم يبق فسحة للفن أو للروح… انظر جيدًا! لا مكان للحياة أو للفرح؛ أتساءل ماذا سيتعلم الأطفال هنا؟».
فنون تختنق
عاصفة السواد أتت على جناح الفن التشكيلي حرقًا في متحف ديرالزور حيث ركنت أعمال فنانين تشكيليين محليين، يصور معظمها لقطات من حياة الأهالي في وادي الفرات.
«حضارتنا مهددة وهويتنا تكاد تغيب بين أطنان من الفوضى والتطرف»، يقول أبو محمد من أبناء المدينة، ويتشارك ووالدة سمر الأسى على ما ألم بمعالم المدينة الأثرية والفنية، من إتلاف التحف والأعمال الفنية والمراسم الخاصة وإحراقها، وتخريب مواقع أثرية ونهبها، إلى تفجير الجسر المعلق، أبرز معالم المدينة؛ وكلها «إساءة للفن والحضارة» بحسب أبي محمد.
وبعد أن أحرق التنظيم عددًا من المنحوتات والرسوم الفنية، وأصدر قوانين مشددة تعاقب على الرسم والنحت وتطالب الأهالي بالتخلص مما وصفته بـ «شركيّات وأًصنام»، لم يعد بوسع أحمد سوى القلق على مصير أعمال أستاذه عبد الجبار، فنان تشكيلي من ديرالزور، إذ ما يزال قسم كبير منها في مرسمه، المهدد بأن تطاله يد التنظيم في أي لحظة.
روح الثورة تنازع
نشّطت أعوام الثورة الأولى حراكًا فنيًا متميزًا تجلى بأساليب عدة منها «الغرافيك» على جدران المدينة، والرسومات التي أرفقت بمجلات وصحف محلية بإشراف نشطاء، وعبارات ملونة خطتها أيديهم على عجل وفي الخفاء، إضافة إلى الصور الفوتوغرافية التي هدفت إلى توثيق الحراك والأحداث اليومية، لتتطور لاحقًا إلى أعمال فنية تعد معالم احترافية جمعت بين الجمال والإبداع والإتقان.
لكن الحرب المتواصلة في ديرالزور وريفها استنزفت مقومات الحياة في المدينة، ما دفع بكثيرين نحو اليأس والهروب بعيدًا عن مناطق الرايات السوداء التي ضيقت على كل لون في المدينة، حتى توقف نبض جدرانها، بعد أن أحيتها رسومات النشطاء وعباراتهم منذ مطلع الثورة، مجسدة أولى خطوات التحدي، وعاكسة رسالة الثورة وأفكارها ونفسها المتجدد والحماسي.
وكما أرّقت تلك العبارات قوات النظام وأجهزته الأمنية التي سارعت لمحوها، تؤرق اليوم التنظيم الذي يسعى لطمسها، فتلاشى معظمها وما بقي منها باهت ومتعب، أرهقته القيود وسُلِب الحياة والأمل.
ومن الفنانين القلائل الباقين داخل المدينة، هشام الشاب، الذي يصف المشهد الحالي لعنب بلدي «حيث يسكن الموت والدمار أرواحنا المحطمة التي لم ينل منها النظام، لكن التنظيم فتك بآخر ذرة من شموخ ووطنية فيها، وترك الأفكار حيرى والآمال في مهب الريح. إنه زمان التنظيم… حين يصبح الحليم حيرانًا».
الحياة ممكنة رغم كل شيء
في قرية صغيرة في ريف ديرالزور الغربي، رفض الفنان (ز) أن يلقي بريشته ويتخلى عن «العدة الفنية» أو أن يساير التنظيم؛ وإذ باتت أعماله جزءًا من روحه، يقول، «لم أستطع أن أحطمها رغم أنها تشكل خطرًا قد يودي بحياتي»، كحال غيره من الفنانين في مناطق سيطرة الدولة أو فصائل أخرى متشددة.
ومن غرفة صغيرة متواضعة هي معرضه الفني، يروي الفنان (ز) قصته خلال سنوات الحرب، وكيف جمع شظايا ما ابتليت به المدينة من قذائف منذ بدء القصف على ديرالزور، وصنع منها رسائل حب وسلام، «فالدين يدفعنا إلى تحويل الشرور إلى خير، وأخلاقنا تحثنا على السلام والأمل؛ هذا واجب الفنانين ورسالة الفن الحقيقي الساعي لإصلاح المجتمع… رسالة لم تصل إلى تنظيم الدولة الذي يحارب كل ما هو جميل».
اختار (ز) الاستمرار في عمله كراوٍ لما تعرضت له المدينة من قصف وتدمير، فيسجل تاريخ سقوط كل من الشظايا التي جمعها، محاولًا من خلال أعماله الفنية أن يجعل من قذائف الموت وأدوات الحرب «شباكًا يطل على فسحة من أمل، تثبت للجميع إمكانية الحياة والعمل والبناء رغم كل شيء».
من الغربة إلى الغربة
بحسرة يتجول الخطاط عبد متأملًا شوارع المدينة، وهو واحد من قلة خطت ريشتهم لافتات السلمية، ولوّنت أعلام الاستقلال ورايات الجيش الحر، وبات خطهم معلمًا بارزًا في فنون الثورة تلقاه حيثما اتجهت في المدينة؛ واليوم يصف نفسه بالغريب في «مدينة اختلف فيها كل شيء، الخطوط تلاشت والرايات تبدلت والأعلام سربلها السواد وكُفّر صانعها وحاملها والمعتقد بها»، كونها راية «عميّة» بحسب فقهاء الدولة الإسلامية، ومن «أعلام وشعارات الطواغيت» بحسب التصنيف السياسي لأمرائها.
أبى عبد مغادرة المدينة قبلًا رغم القصف والحصار، لكنه اليوم اختار ذلك، وحزم أمتعته وحسم أمره بالسفر نحو أوروبا، فقد خسر كل شيء هنا كما يقول، وبات مهددًا بالاعتقال من جديد من قبل شرطة التنظيم في أي لحظة، إذ اعتقل لعدة أيام سابقًا و»استتاب».
وبينما يتابع الخطاط حديثه عن «مدينة محاصرة بالدماء والسواد»، يغلبه الانفعال وهي يروي، «من يستطيع التعبير عمّا يحدث اليوم؟! لا ريشة فنان ولا قلم خطاط ولا حتى الظلال الحبيسة في عدسة كاميرا التقطت المشهد قادرة على إيصال الألم والقهر في قلب أم تبكي طفلها المنحور أمامها، وصلبان معلقة تحمل جثثًا قطّعها التعذيب الوحشي في سجون الجهل والظلام».
تزنّر المدينة هياكل صلبان تتفشى ظلالها رعبًا في قلوب الأهالي، وتكتسح شوارعها أقفاصٌ حديدية تشرَّع أبوابها لتتصيّد «الفاسقين»؛ لكنها تلملم بقايا روحها وتستلهم الحياة من بقايا تمثال الشاعر محمد الفراتي، ومن ركام المساجد والكنائس التي غارت عليها يد الظلّام.
إيه يا بلبل الفرات ترنم فوق شطآنه وحي الورودا
وتنقل على الغصون مدلًا واملأ الأفق في الصباح نشيدا
أنت مثلي وكم عهدتك في الدوح طروبًا بل شاديًا غرّيدًا
حي عني الأحرار في كل شعب ناهض للعلا وحيّ الجهودا
محمد بن عطا الله العبود، الملقب بالشاعر الفراتي أو محمد الفراتي (1890-1978) أديب وشاعر ومترجم عن الفارسية، من مدينة ديرالزور، حيث أقيم له تمثال أواخر سبعينيات القرن الماضي. ومع وصول النزاع المسلح في الثورة السورية إلى المدينة، وتعدد الأطراف الداخلة فيه، اختفى التمثال مطلع العام قبل الماضي، وتداول نشطاء لاحقًا صورًا قالوا إنها لرأس التمثال المتضرر.
لم تنحصر انعكاسات الوضع في المدينة على تمثال أديبها الراحل وغيره من آثارها ومعالمها؛ بل تعدتها لتؤول بزخم الحركة الفنية من تراث زاخر إلى واقع محاصر بالآلام.
سابقًا شهدت المدينة، رغم بعدها الجغرافي عن العاصمة، نشاطًا فنيًا مرئيًا واسعًا، تركز في فنون تشكيلية من مدراس متنوعة في مجالات الرسم والنحت والتصوير، إضافة إلى فنون تطبيقية أخرى كتصميم الحلي.
وبرز من أبنائها على مدى العقود الماضية أسماء كثيرة، احترفت الفنون في جامعات محلية وعربية وغربية؛ جُلّهم عاد للعمل في مدينته، فنانًا أو مدرسًا للفن. وبرز مرسم الراحل عبد الجبار ناصيف بمثابة ملتقى لفناني المدينة ونواة للإبداع وشباكًا أطل منه العديدون على الفن، إذ كان صاحبه يستقبل الأطفال ويعلّمهم مجانًا.
وآثر فنانو المدينة في أعمالهم مواضيع تصوّر هوية المنطقة، وترسخ إرثها الحضاري وموروثاتها الاجتماعية، ما يظهر عمق ارتباطهم بها. وأقيمت عدة معارض مشتركة لفناني ديرالزور في دمشق، وبعضهم أقام معارض منفردة لأعماله في دمشق وفي دول الخليج؛ وواكب الجيل الجديد منهم التقنيات المعاصرة في أعمالهم ونهج تدريسهم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :