محاكمة التعذيب السورية في كوبلنز- ألمانيا

  • 2020/05/17
  • 1:05 ص

رسم لجلسة المحاكمة الأولى لضابطين سوريين في ألمانيا (مارك نيلسون/خاص عنب بلدي)

منصور العمري- العفو الدولية

وصلتُ إلى بلدة كوبلنز الألمانية القديمة في فترة ما بعد الظهر، بعد رحلة طويلة. كنتُ ما زلت أرتدي قناع الوجه وتفوح مني رائحة المعقم. أول ما لفت نظري كانت زهور التوليب المنتشرة في كل مكان.

لم يكن التنفس سهلًا في أثناء وضع القناع، خاصة بعد وضعه لساعات. وعندما خلعته أخيرًا، شعرتُ بألم يسري في جميع أنحاء وجهي. أخذتُ نفسًا بطيئًا وعميقًا عابقًا برائحة الزهور العطرة ومياه النهر العذبة، وواصلتُ المشي في الشوارع القريبة المهجورة صوب وجهتي.

لم يكن هذا اليوم 23 من نيسان/إبريل 2020، يومًا عاديًا. وصل صحفيون وناشطون في مجال حقوق الإنسان، وكثيرون غيرهم إلى محكمة “كوبلنز العليا” قبل أن تفتح أبوابها. نحن هنا لنشهد المحاكمة الأولى من نوعها في العالم، المحاكمة الأولى لمسؤولين سابقين في جهاز الأمن التابع للحكومة السورية متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. إن مجرد كتابة هذه الكلمات يملؤني بالعواطف الجياشة، ناهيك عن الوجود هنا في هذا المكان.

أنا هنا لتغطية جلسات المحاكمة لمصلحة منظمة العفو الدولية في المملكة المتحدة، وأراقب المحاكمة أيضًا كجزء من دراستي للحصول على درجة الماجستير في القانون، كما أوثّقها لمصلحة منظمة “مراسلون بلا حدود”.

أحد الرجال قيد المحاكمة هو أنور رسلان، الذي يشتبه بضلوعه في تعذيب ما لا يقل عن 4000 شخص بين عامي 2011 و2012 في فرع “الخطيب” التابع لإدارة “أمن الدولة” في دمشق. وأسفر هذا التعذيب عن مقتل 58 شخصًا وشمل حالات عنف جنسي.

يحضر هنا العديد من الصحفيين، وممثلون عن جميع وكالات الأنباء العالمية الكبرى ومختلف وسائل الإعلام. كان من الصعب، لكن من الضروري، فصل مشاعري الشخصية عن عملي، فقد سبق لي أن اعتُقلتُ وعُذبتُ في سوريا، كما عملتُ على توثيق جرائم أنور رسلان في فرع “الخطيب”، وبعض ضحاياه هم من أصدقائي المقربين.

كانت المرة الأولى التي يلتقي فيها الجلاد بضحاياه في محكمة لائقة، لكنها لم تكن المرة الأولى التي يلتقون فيها. ففي سوريا، كان أنور هو العقيد والقاضي والمحقق والجلاد، بينما كان الطرف الآخر مجرد ضحية. في ذلك الزمان، كان أنور مسيطرًا باستخدام مجموعة واسعة من أدوات التعذيب، بما في ذلك العصي والأسلاك الكهربائية وأجهزة الصعق الكهربائية.

رسم لجلسة المحاكمة الأولى لضابطين سوريين في ألمانيا (مارك نيلسون/خاص عنب بلدي)

انقطع سيل الذكريات فجأة، الأمر الذي يبعث على الارتياح. وصل المتهم الأول إلى قاعة المحكمة، وانبعثت في الأجواء ذبذبات كهربائية من نوع مختلف.

دخل الرجل إلى القاعة لكن وجهه كان مخفيًا بغطاء رأس. وقف صحفيون وآخرون في القاعة ليلقوا عليه نظرة خاطفة، وصاح شخص خلفي مناديًا عليّ، لربما كنتُ أحجب عنه الرؤية، فقد أراد الجميع رؤية الرجل الملثم. كنتُ أقف على بعد نحو عشرين مترًا فقط، وكنت أرى يدَي المدعى عليه اللتين بدتا بيضاوين على نحو استثنائي. كان يشدّ غطاء رأسه إلى الأسفل لدرجة أنه كاد أن ينفصل عن معطفه.

هل كان يخشى كشف وجهه للجمهور والصحفيين؟ ربما هو الخوف من فيروس “كورونا”؟ أو ربما كان خائفًا من أن يتعرّف إليه بعض ضحاياه؟ ربما كان يشعرُ بالعار؟ لا أعرف. مهما كان السبب، كان هذا الشخص هو إياد الغريب المتهم بممارسة التعذيب في ثلاثين حالة على الأقل.

وبالرغم من محاولتي البقاء في حاضر المشهد والانفصال عنه عاطفيًا، وجدَت ذاكرتي سبيلها للعودة، ودائمًا ما تفعل. يخفي العديد من ممارسي التعذيب في مراكز الاعتقال التي يديرها الأسد هوياتِهم عن ضحاياهم. حتى أنا، عندما أُخفيتُ قسرًا وخضعتُ للتعذيب على خلفية توثيقي شبكة الأسد الواسعة المختصة بالتعذيب والإخفاء، كنتُ معصوب العينين ليلًا ونهارًا. كنت مرغمًا على وضع عصابة العينَين لدرجة أنها أصبحت سِمة دائمة في وجهي، مثل فمي وأنفي وجبيني، إذ كان الحارس يصرخ كالوحش ويضربنا بشدّة إذا ما رأى أحدَنا من دون العصابة.

اليوم، في هذه المحكمة بكوبلنز في ألمانيا، لا يفرض الجلاد إجراءاته الوحشية علينا. اليوم، يقبع هو في قفص الاتهام ويخفي وجهه.

انقطعَت ذكرياتي -المؤلمة والمنفصلة عن المشهد- مرة أخرى، وملأت قاعة المحكمة فجأة ذبذبات كهربائية جديدة. دخل أنور رسلان القاعة، لكن من دون أن يخفي وجهه.

في الجزء الثاني من هذا المقال، سيركّز منصور اهتمامه على أنور رسلان

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي