مراد عبد الجليل | علي درويش | حباء شحادة
معتمرًا قبعة سوداء وممسكًا بقلم ودفتر لتسجيل احتياجات الأهالي، ظهر القائد العام لـ”هيئة تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”، من داخل أحد المخيمات في إدلب، في 15 من أيار الحالي، في محاولة لترميم ما يعتبره “حاضنة شعبية” بدأت بالانقلاب على سياسات فصيله، ورددت هتافات “لا إله إلا الله، الجولاني عدو الله”.
تقف “الهيئة”، التي تمثل أكبر القوى العسكرية المسيطرة في إدلب، بين جملة من التحديات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، ووسط معطيات داخلية وخارجية تزداد تعقيدًا، تجعلها في محاولة للبحث عن حلول تطيل عمرها، وتحافظ على أثرها في الملف السوري.
تناقش عنب بلدي حال “الهيئة” على ثلاثة مستويات: الحاضنة الشعبية والاقتصاد والأيديولوجيا، وتسلط الضوء على التحديات وأثرها على توجهات “الهيئة” ومساراتها المستقبلية.
حاولت عنب بلدي التواصل مع “هيئة تحرير الشام” عبر مراسلة إلكترونية، من أجل الحصول على رد لما ورد في التقرير، ومدى إمكانية تكيفها مع الواقع السياسي والعسكري الحالي، لكنها لم تتلقَّ جوابًا حتى إعداد الملف.
الشعب و”الهيئة”..
هل تطيح تحولات الثقة بالراية الخضراء؟
بعد ساعات من إعلان الولايات المتحدة تصنيف “جبهة النصرة” جماعة “إرهابية”، في 10 من كانون الأول 2012، خرجت مظاهرات شعبية في أنحاء سوريا مرددة شعار “كلنا جبهة النصرة”، دلالة على رفض القرار الأمريكي ودعمًا للفصيل الذي كان يحقق أكبر الأثر في المعارك مع النظام السوري، لكن وبعد سبعة أعوام ونصف تتردد هتافات مختلفة في الرقعة التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” (“جبهة النصرة” سابقًا)، في شمال غربي سوريا، تنادي برحيل الفصيل وترميه بتهم العداء للشعب ولمصالح الثورة.
يرى الباحث المختص بالجماعات الجهادية عباس شريفة، أن بدء “جبهة النصرة” بتنفيذ مشروعها بإنشاء إمارة خاصة بها بعد عام 2015، عن طريق قتال الفصائل وإقامة “حكومة الإنقاذ”، وتضييقها على أرزاق الناس، مع الدخول بمعارك “وهمية” ضد النظام السوري، “سلمت فيها أكثر من نصف المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة”، إضافة إلى زيادة المظالم، وفساد القضاء، واحتكار الاقتصاد، كل ذلك “عزز النقمة الشعبية، وجعل الناس ينظرون لها كتنظيم طفيلي يستولي على الموارد ولا يدافع عن الأرض”.
تعامل أمني خوفًا من السقوط
لم تنقطع المظاهرات الشعبية في إدلب منذ عام 2011، والأصوات ذاتها التي علت ضد قمع النظام السوري عادت لتعلو ضد ممارسات “الهيئة” وتضييقها الأمني، الذي تمثل بالاعتقال وحتى القتل للمعارضين.
إذ وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 25 شخصًا تحت التعذيب في سجون “الهيئة”، واعتقالها 2057 شخصًا اعتقالًا تعسفيًا خلال الأعوام التسعة للحرب السورية، مع بلوغ حصيلة المختفين على يدها 1946 شخصًا منذ آذار عام 2011 حتى آب عام 2019.
أكثر من عشرين عنصرًا ملثمًا توجهوا لاعتقال المحامي ياسر السليم من بيته في مدينة كفرنبل في ريف إدلب الجنوبي عام 2018، واقتادوه في منتصف الليل مع أحد ضيوفه وهو حافي القدمين ومعصوب العينين ويرتدي ثياب النوم إلى صندوق أحد “الفانات” المغلقة حتى أوصلوه إلى سجن “العقاب”، الذي هو عبارة عن مغارة في أحد الجبال الواقعة بين قرى البارة وبليون وكنصفرة.
بتهمة حمل “فكر علماني مخالف للشرع ويتعارض مع الدين”، التي علم بها بعد سجن دام شهرين في الزنزانة المنفردة، قضى 161 يومًا في زنزانة بطول مترين وعرض متر، حتى الإفراج عنه بتاريخ 1 من آذار عام 2019، حسبما قال السليم لعنب بلدي.
كان اعتقال المحامي على خلفية تعبيره عن آرائه المناهضة لسياسات “الهيئة”، ومواقفه المتعاطفة مع أهالي السويداء وقريتي “كفريا” و”الفوعة” والكرد، في المظاهرات وعبر حسابه في “فيسبوك“.
يرى السليم أن انفضاض الحاضنة الشعبية في إدلب عن “الهيئة” كان نتيجة “كشف زيفها” لأن ما يهمها هو السلطة والمال مع القمع الشبيه بقمع النظام، على حد تعبيره، مشيرًا إلى أن الإيجابية الوحيدة التي حملتها “الهيئة” هي أن عناصرها “المصدقين لكذبة الجهاد والشريعة” مقاتلون أشداء على الجبهات، وكان يهابهم اللصوص وقطاع الطرق.
رغم ذلك، يحاول الفصيل “امتطاء الحراك المدني”، على حد تعبير الباحث المختص بالجماعات الجهادية عباس شريفة، مشيرًا إلى أنه “يفشل في ذلك كل مرة”، ومضيفًا أن “الهيئة لا تأخذ شرعيتها من الاختيار الشعبي، وإنما بالقوة وفرض السيطرة، لذلك هي تخاف من أي حركة شعبية ولا تتساهل في قمعها خوفًا من الإسقاط”.
الرؤية من داخل الفصيل.. بين الاعتراض والواجب
منذ أن بدأت “جبهة النصرة” بالتحول واتخاذ أسماء جديدة وتشكيل تحالفات مع فصائل أخرى، توالت عمليات الانشقاق والانسحاب من مظلتها، تارة بسبب اختلاف النهج والمبدأ بين الفصائل وتارة بسبب المصالح، وفي عام 2019 بدأت الانشقاقات تصل إلى شرعيي “الهيئة”، بحجة رفض “الاعتدال”، أو “الفساد”.
أما بالنسبة لعناصرها، الذين لا توجد معلومات مؤكدة عن تعدادهم، فقد كان للتعامل الأمني الأخير مع المتظاهرين الرافضين لفتح المعبر مع النظام السوري أثر كذلك، إذ تواصلت عنب بلدي مع ثلاثة من عناصر “الهيئة”، وتحدثوا عن مواقفهم من النقد الشعبي لـ”الهيئة” وتعامل الفصيل معه، مع طلبهم عدم الكشف عن أسمائهم لاعتبارات أمنية.
يعتبر الشاب محمد (اسم مستعار)، البالغ من العمر 20 عامًا، أن ما تقوم به “الهيئة” تجاه المتظاهرين المناهضين لها في المظاهرات التي تخرج في إدلب مرارًا خاطئ، مع تحفظه السابق على نهجها السيئ في تخطيط القتال، إلا أن واجبه كمقاتل يحتم عليه تلبية النداء للرباط مع “الهيئة” في حال اندلعت المعارك، حسبما قال لعنب بلدي، مشيرًا إلى أن عائلته ترفض فكرة بقائه مع الفصيل وتحثه على تركه.
أحمد (اسم مستعار) يتحفظ على التعاملات المالية للفصيل، مشيرًا إلى وقوع بعض الأمراء بـ”الفتنة”، إلا أنه يرى أن رفضه الاستفادة من أموالهم (الأمراء) يحميه من شبهة الوقوع في الخطأ عند استمرار انتسابه لهم.
أما عمر (اسم مستعار)، فاختار ترك “الهيئة”، قبل ثلاث سنوات، والانضمام لجماعة “الحزب الإسلامي التركستاني”، بعد ما رآه من “استبداد بالرأي وتسلط”، خاصة في الدعوة بالدين، بالإضافة إلى “الفساد” و”المحسوبية” ضمن هيكيلية الفصيل، والقتال “غير المبرر” لفصائل المعارضة، وانتقد في حديثه إلى عنب بلدي تعامل “الهيئة” اقتصاديًا مع النظام، وجثث قتلاها ما زالت على الأرض في مناطق سيطرته.
الضغط الشعبي.. هل يصل لـ”الهيئة”؟
يطالب معارضو “هيئة تحرير الشام” بإنهائها في مظاهراتهم، حسبما قال أحد المتظاهرين المعارضين لـ”الهيئة” في إدلب لعنب بلدي، مطالبًا بعدم الكشف عن اسمه لاعتبارات أمنية.
وباعتقاد المتظاهر، فإن “الهيئة” لم تجلب النفع على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بل كانت “عبئًا على السكان”، منذ أن “اختلفت توجهاتها” وسعت وراء الربح والمشاريع التجارية.
والمنطقة ستكون أفضل، “لو تم إنهاء الفصيل وتشكيل إدارة مدنية معروفة ومنتخبة من الشعب مع الانفتاح على الدول الخارجية، باعتبار أن المنطقة محاصرة وأن الوضع سيبقى على هذه الحال وقتًا طويلًا”.
تُضعف مطالب سكان المنطقة واحتجاجاتهم على الفصيل “تحرير الشام”، وترفع عنها الشرعية، وتعزز حالة العزل الشعبي لها، حسب تقدير الباحث المختص بالجماعات الجهادية عباس شريفة، إلا أن ذلك “لن يقضي عليها”، كونها قوة عسكرية ولن تنتهي “دون عمل عسكري أو أن تقوم هي بتفكيك نفسها”.
ولا يرى الباحث أن خيار التفكيك وارد بين قيادات “هيئة تحرير الشام”، بسبب ما وصفه بـ”منظومة المصالح المعقدة” التي تربط بين القيادات والجنود، إضافة إلى خوفهم من تفتيت العصبة التي تجمعهم “خوفًا من أن يتم استهدافهم ومحاسبتهم على الجرائم والسرقات السابقة، لذلك لا بد لهم من المحافظة على الشوكة لحماية أنفسهم”.
غنائم.. مبادلات.. معابر
اقتصاديات “الهيئة” أدوات مادية لبقائها
في حين تحاول “هيئة تحرير الشام” تلطيف خطابها الخارجي وترويج صورة الاعتدال في النهج، تصاعدت حدة مواقفها مع أهل المنطقة وأوقعت منهم قتيلًا ومصابين في سبيل افتتاح معبر للتبادل التجاري مع النظام خلال أيار الحالي، رغم المخاوف من انتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، مبررة ذلك بـ “المصلحة الاقتصادية العامة”.
تقوم مصادر “هيئة تحرير الشام” في تعزيز تلك “المصلحة الاقتصادية” على أركان ثلاثة، تبدلت مراحل استخدامها خلال مراحل التطور.
الركن الأول كان عبر التبرعات والدعم، والثاني ما يعرف بالاغتنام والوراثة سواء مما تحصّله من معاركها ضد قوات النظام السوري، أو ما سيطرت عليه من موارد الفصائل، والركن الثالث والمستمر حتى اليوم هو السيطرة على تجارة سلع رئيسة ومعابر تجارية، بحسب ما قاله المحلل الاقتصادي خالد تركاوي، في حديثه لعنب بلدي.
لكن زعيم “هيئة تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”، قال إن “الهيئة” لا تتلقى أي دعم من قبل جهات استخباراتية أو من دول، وتقتصر الموارد المالية لها على “التبرعات من عوام المسلمين” و”الغنائم” وبعض الشؤون التجارية التي عملت على تطويرها لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وذلك خلال لقاء أجراه الصحفي أحمد منصور في برنامج “بلا حدود” على قناة “الجزيرة” في أيار 2015.
غنائم من النظام ورفاق السلاح أيضًا
لم تقتصر الغنائم التي حصلت عليها “تحرير الشام” على ما أخذته من النظام، لكنها أيضًا تجاوزت ذلك إلى السيطرة على موارد الفصائل من سلاح ومقرات وعتاد وأموال في حال وُجدت.
ويرى الباحث الاقتصادي خالد تركاوي، أن الهدف الأكبر لمعظم تدخلات “تحرير الشام” ما يعرف بفقهها بـ”التمكين”، ومنه التمكين الاقتصادي والمعرفي، بناء على فكرة “التغلب”، التي تقضي بأن المتغلب هو الذي يتولى حكم المنطقة ويفرض الأمر الواقع وعلى البقية النزول عند حكمه.
وكانت “الهيئة” منعت في تموز عام 2017، تشكيل فصائل جديدة في الشمال السوري، وعزت ذلك إلى “الحرص للحفاظ على الساحة من التشرذم”، واليوم تبرر مناوراتها أمام المنتمين لها بأنها تحاول تمكين نفسها سواء بالتدريب والإعداد العسكري أو بالسيطرة على موارد أكبر، حسبما قال تركاوي.
وكانت “تحرير الشام” سيطرت على كامل موارد “حركة أحرار الشام” منتصف 2017، وبعد أشهر من ذلك سيطرت على مقرات وأسلحة تابعة لحركة “نور الدين زنكي” مطلع 2018.
وبحسب ما قاله قائد “جيش عمر” في “الهيئة”، أبو العبد أشداء، الذي انتقد “الفساد” عبر إصدار أسماه “كي لا تغرق السفينة” صدر في أيلول 2019، فإن المصادرات من “الزنكي” بلغت نحو عشرة ملايين دولار (أكثر من 1100 آلية ومستودعات من الذخيرة والأدوية)، “كلها كُنزت ولم تُدفع حتى ديات القتلى من المدنيين الذين قُتلوا بالخطأ”.
كما سيطرت على مخازن سلاح وآليات ومبالغ من “جيش السنة” عام 2014، و”حركة حزم” و”الفرقة 30″ و”اللواء السابع قوات خاصة” منتصف عام 2015، إضافة إلى سيطرتها على فصائل وكتل عسكرية صغيرة.
واستطاعت “تحرير الشام” تحصيل بعض الدعم المالي عن طريق دخولها بتحالفات مع فصائل أخرى ضمن إطار عمليات الاندماج وتوحيد الجهود التي جرت بين مختلف القوى.
المبادلات.. طرق تمويل لا تفصح “الهيئة” عن تفاصيلها
اشتهرت عدد من المبادلات أجرتها “الهيئة” مع أطراف مختلفة، لكنها لم تفصح عن فحوى هذه المبادلات وما أخذت من أموال مقابلها، مثل مبادلتها في آذار عام 2014، 13 راهبة بعد احتجاز دام نحو ثلاثة أشهر، مقابل خروج 152 معتقلة من سجون النظام، بعد وساطة قطرية- لبنانية.
وعملية الإفراج عن عسكريين لبنانيين معتقلين لديها، أسرتهم في وقت سابق خلال معركة دارت في بلدة عرسال الحدودية مع سوريا شرقي لبنان مع قوات الجيش اللبناني، مقابل إفراج السلطات اللبنانية عن بضعة معتقلين لـ”النصرة” من سجن “رومية”، في تشرين الثاني 2015.
واتفاق “المدن الأربع” الموقّع في نيسان 2017، بين “تحرير الشام” و”حركة أحرار الشام” من جهة، وطهران من جهة أخرى، وبرعاية قطرية، والذي نص على إخراج أهالي مدينتي مضايا والزبداني بريف دمشق إلى الشمال، إضافة إلى مخيم “اليرموك”، مقابل إخراج كامل أهالي كفريا والفوعة في مدينة إدلب على دفعتين، وإطلاق سراح 1500 معتقل لدى النظام.
وتضاف مبادلات أخرى لصحفيين اتهمت “تحرير الشام” باختطافهم وإطلاق سراحهم لاحقًا مقابل مبالغ، كما تُتهم بأنها حصلت على أموال لقاء مبادلات جثث قتلى ميليشيات إيرانية و”حزب الله” اللبناني، خاصة خلال معارك ريف حلب وإدلب.
المعابر والتجارة.. تمويل مستمر على مدار الساعة
تتمتع “تحرير الشام” بشبكة اقتصادية كبيرة ومعقدة، تبدأ من المعابر التجارية التي تسيطر عليها، والمتمثلة حاليًا بمعبر “باب الهوى” مع تركيا، ومعبر “الغزاوية” و”دير بلوط” الواصل بين مناطق سيطرتها في إدلب ومناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”، والمعابر مع قوات النظام، حسبما قال الباحث المختص في شؤون الجماعات الجهادية عباس شريفة، خلال حديثه لعنب بلدي.
ومن أشهر المعابر التي كانت تحت سيطرة “الهيئة” سابقًا قبل سيطرة قوات النظام السوري عليها، معبر “قلعة المضيق” و”أبو دالي” و”مورك” بريف حماة، و”العيس” بريف حلب الجنوبي، التي رفدت خزينة الفصيل بملايين الدولارات، بحسب صالح الحموي، القيادي السابق في جبهة “فتح الشام” (التي غيرت مسماها إلى “تحرير الشام”)، وصاحب الحساب الشهير “أس الصراع في الشام” عبر “تويتر”.
وقال الحموي في تغريدة عبر حسابه، في 17 من نيسان الماضي، إن “الهيئة” كان دخلها من معبر “مورك” 800 ألف دولار شهريًا، وبلغ دخلها من معبر “العيس” و”المنصورة” و”قلعة المضيق” و”أبو الظهور” شهريًا مليونًا ونصف المليون دولار.
وقال القيادي البارز في صفوف الفصيل “أبو العبد أشداء”، في إصداره للكشف عن “الفساد”، إن دخل “تحرير الشام” 130 مليون دولار شهريًا، مشيرًا إلى أن القادة احتكروا استيراد أكثر البضائع لمصلحة طائفة محددة من التجار، “ما يوقع الغلاء على الشعب”.
وأضاف أنه وعلى الرغم من الدخل المادي الشهري الكبير لـ”تحرير الشام”، فإن مقاتليها لا يتلقون منحًا مادية شهرية، وكثير منهم ترك صفوفها بسبب الفقر الشديد، بينما هناك إداريون تصل رواتبهم إلى أكثر من 250 دولارًا شهريًا، وهم إداريون لا يرابطون ولا يتعرضون للقصف، بينما تبلغ منحة المقاتل الأعزب 20 ألف ليرة سورية (13 دولارًا بسعر صرف 1500 ليرة مقابل دولار واحد) والمتزوج 35 ألف ليرة (23 دولارًا بسعر صرف 1500)، إضافة لسلة غذائية.
ووصل إلى “الهيئة” في بداية تشكيلها أكثر من 100 مليون دولار، إضافة إلى سيطرتها كل موارد “المحرّر” من معابر وغيرها، وجعلت الكلام عن الأموال وكيفية صرفها وأيضًا توريدها إلى الفصيل من الأمور المحرمة على عناصرها وخطًا أحمر لا يجب الاقتراب منه، وعملت على التقتير على “المجاهدين والقطاعات والجيوش والألوية” حسب “أبو العبد”.
وتساءل القيادي، قبل أن يتم اعتقاله، أين تذهب أموال “الهيئة” التي تدعي أنها تنفقها في مجالات مختلفة يتبين لاحقًا عدم صدقها.
مشاريع استثمارية ضيّقت على العامة
تسيطر “الهيئة” على محلات الصرافة في مدن سرمدا والدانا بريف إدلب الشمالي، ومحلات بيع المجوهرات، كما أن هناك شراكة ومضاربات مع تجار في “المناطق المحررة” مقابل نسبة من الأرباح، إضافة لنقل كثير من الاستثمارات إلى الخارج بأسماء غير معلومة.
إضافة إلى ذلك، يشير المحلل الاقتصادي خالد تركاوي إلى أن “الهيئة” تعتمد حديثًا على الاستثمارات الصغيرة، إذ افتتحت بعض المحلات التجارية بنفسها، أو عن طريق شراكات، لكن ذلك الاعتماد ليس أساسيًا وإنما جزء من مشروعها المستقبلي.
وضيّقت العديد من المشاريع الاستثمارية الاحتكارية لـ”الهيئة” على الأهالي في إدلب، ومنها مشروع شركة المحروقات “وتد” وشراء بعض المحاصيل الزراعية، حسبما قال “أبو العبد أشداء”، عبر “تويتر” سابقًا.
وعلمت عنب بلدي من مواطنين في إدلب أن “حكومة الإنقاذ”، المتهمة بتبعيتها للفصيل مع نفيها ذلك، تفرض ضرائب “حرس ليلي” على بعض الأسواق في محافظة إدلب، لا تقل عن عشرة آلاف ليرة سورية على كل محل تجاري.
كما وكّلت “الهيئة” نفسها جابيًا لزكاة المحاصيل الزراعية لتوزعها “على فقراء المسلمين في المحرر”، وهو ما أحدث توترًا في مدينة كفر تخاريم شمال إدلب في تشرين الثاني عام 2019، عقب خروج مظاهرات من الأهالي ضد “لجان جمع الزكاة”، التي كانت تحاول جمع الزكاة من معاصر الزيتون، وطُردت خارج المدينة.
مراحل تطور “الهيئة”..
ثلاث تسميات ورجل واحد
“جبهة النصرة” ثم “جبهة فتح الشام” وصولًا إلى “هيئة تحرير الشام”، ثلاثة مسميات بصلات وانتماءات مختلفة، لكن بزعامة شخص واحد، هو “أبو محمد الجولاني” الذي يحاول دائمًا التكيف مع المتغيرات وإظهار نوع من البراغماتية في التعامل مع المستجدات والمتغيرات، بحسب ما قاله الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الجهادية حسن أبو هنية، لعنب بلدي.
ومنذ تأسيس “جبهة النصرة” في كانون الثاني عام 2012 في سوريا، وصولًا إلى “هيئة تحرير الشام” في شباط عام 2017، مرت في ثلاث مراحل، الأولى حملت عنوان “الجهاد على أرض الشام”، بحسب “الجولاني” في مقابلة مع قناة “الجزيرة” في 2013، الذي قال إن “جبهة النصرة ثمرة من ثمرات الجهاد العالمي، والتاريخ الطويل من الجهاد في مصر وأفغانستان والعراق”، ليعود ويؤكد في مقابلة مع نفس القناة في 2015، بأن “الجهاد الأفغاني جدد للأمة أمر دينها، وجهادها امتد بالوصول إلى بلاد الشام”.
واتسمت هذه المرحلة بخلافات وصراعات مع “تنظيم الدولة الإسلامية” والبعد عن نهج زعيمه “أبو بكر البغدادي”، بعد تحالفهما منذ عام 2013 حتى شباط عام 2014، قبل الانفصال واندلاع اشتباكات ومعارك بينهما، تزامنًا مع التمسك بنهج تنظيم “القاعدة” وهو ما أكده “الجولاني” عام 2013 حين قال، “أميرنا الدكتور أيمن الظواهري، وكل وصاياه أن نلتقي مع الفصائل، وهذه من أدبيات العمل الجهادي وتنظيم القاعدة (…) توجيهات قيادة القاعدة راشدة وفق الكتاب والسنة، وتوجيهات تأتي للتوافق والالتحام مع أبناء أهل السنة”.
لكن مع تعزيز “جبهة النصرة” وجودها، والمساعي لتحولها إلى “رأس حربة في الساحة السورية، وعنصر أساسي لا يمكن الاستغناء عنه وتهميشه”، بحسب ما قاله “الجولاني” في مقابلة “الجزيرة”، ومع ازدياد الضغوط عليها محليًا ودوليًا وإدراجها على “قائمة الإرهاب”، أعلن قائدها في تموز عام 2016 فك الارتباط بـ”القاعدة”، وتأسيس ما سُمي “جبهة فتح الشام”، التي استمرت مدة عام واحد، قبل إعلان تشكيل “هيئة تحرير الشام”.
واتسمت المرحلة الثانية بالتحول إلى البعد المحلي عبر تغيير الخطاب وتوسيع النفوذ في الشمال السوري في عدة مستويات، إن كان عسكريًا وأمنيًا عبر بسط النفوذ على إدلب وريف حلب الغربي، بعد القضاء على فصائل في الجيش الحر أهمها “جبهة ثوار سوريا”، و”حركة حزم”، وحركة “نور الدين الزنكي”، و”الفرقة 30″، وتجمع “فاستقم كما أمرت”، بالإضافة إلى تحجيم حركة “أحرار الشام”، الشريك الأقوى لها سابقًا في “جيش الفتح”.
أو على الجانب الإداري والاقتصادي، إذ عملت “تحرير الشام” لإطباق السيطرة على إدارة المناطق، وتأسيس ودعم “حكومة الإنقاذ” والتدخل في عمل المجالس المحلية، والسيطرة على منافذ الاقتصاد في المنطقة، وأهمها المعابر الحدودية والتجارية، إن كانت مع تركيا أو مع النظام السوري، إضافة إلى السيطرة على شبكة الطرق الرئيسة.
تغير الخطاب.. هل جاء متأخرًا؟
تمثلت المرحلة الثالثة بـ“البراغماتية” والتخلي عن “الأيديولوجيا” التي ارتبطت بـ“التشدد” والتي لم تعد تنفع في ظل المتغيرات، فكان لا بد من التحول إلى خطاب وسياسة جديدة تقوم على المصالح، وتؤمّن البقاء على المدى الطويل، كخطوة لتصدر المشهد المستقبلي ولو بما يحفظ الوجود فقط.
ويعتبر بيان “الجهاد والسياسة الشرعية بين الثوابت والمتغيرات” الذي نشرته “الهيئة” في حزيران 2018، نقطة فارقة في تحول خطابها عبر استخدام مصطلح “مصالح معتبرة” في العلاقات مع الدول، وما تبعه من بيانات “الخطاب المزدوج”، والموافقة بشكل ضمني على اتفاقات تركيا مع روسيا فيما يخص المنطقة.
أما الخطاب الأهم فكان في شباط الماضي، خلال مقابلة أجراها موقع “Crisis Group” (مجموعة الأزمات الدولية)، مع “الجولاني” الذي أشار إلى أن هدف “الهيئة” حاليًا هو قتال النظام “الفاقد للشرعية”، معتقدًا أن “أيديولوجيا الهيئة اليوم تستند إلى الفقه الإسلامي، مثلها مثل أي جماعة سنية محلية أخرى في سوريا”.
كما حاول “الجولاني” إيصال رسائل إلى الدول بعدم “استخدام سوريا من قبل تنظيم القاعدة أو أي فصيل آخر، كمنصة إطلاق للعمليات الخارجية، والتركيز على قتال النظام السوري وحلفائه في سوريا”.
ويقول الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الجهادية حسن أبو هنية، لعنب بلدي، إن خطاب “الجولاني” كان موجهًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بالتعامل مع “الهيئة” على أنها جماعة معارضة محلية ولها أهداف مشروعة.
رغم أنها حين كانت “جبهة فتح الشام” أكدت في بيان صدر عام 2016، أن أمريكا “عدو كافر صائل مباشر على المسلمين، يحرم التعامل معه بأي نوع من أنواع التعامل، تحت أي مبرر وذريعة”.
لكن الخطاب الأخير جاء متأخرًا فـ”هذه الجماعة سلفية مؤدلجة على درجة عالية، ومن جبهة النصرة وصولًا إلى فتح الشام وتحرير الشام كانت تحاول التكيف مع متغيرات”، بحسب “أبو هنية”، الذي أكد أن “سلوك الحركات الراديكالية عندما توضع تحت الضغط هو تقديم التنازلات، ولكن عندما تشعر بالارتياح تعود إلى ذات الخطاب المتسلط والمتشنج”.
واعتبر “أبو هنية” أن “الجولاني يحاول أن يثبت هيمنته وسطوته، ويريد أن يقدم نفسه كلاعب محلي فاعل على غرار حركة طالبان (التي وقعت اتفاقًا مع أمريكا) أو جماعة نصرة الإسلام والمسلمين في مالي (كجماعة محلية)، وبالتالي يدخل في اتفاقات، وهذا غير وارد كونه ليس بموضع قوة يدفع أمريكا للتحاور معه، أو أخذه على محمل الجد من قبل الدول إن كانت روسيا أو تركيا”.
وفي أواخر كانون الثاني الماضي، صرح المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، أن “تحرير الشام تركز على قتال قوات النظام، ولم يشهد لها تهديدًا على المستوى الدولي”، وقال في مؤتمر صحفي، إن “تحرير الشام تعرّف عن نفسها أنها تمثل معارضة وطنية تضم مقاتلين وليس إرهابيين، لكن أمريكا لم تقبل بهذا التوصيف بعد”.
أما خطاب “الهيئة” مع تركيا، التي تعتبر الداعم الأكبر لفصائل المعارضة والضامن للاتفاقات مع روسيا، فظهر عليه التحول أيضًا، فبعد تحريم القتال إلى جانبها في معارك ريف حلب الشمالي في 2016، اعتبر “الجولاني” أن دخول القوات التركية إلى إدلب في “مصلحة الثورة”، وقال لقاء مع الإعلاميين، في 14 من شباط الماضي، إن “رهاننا قوتنا الداخلية مع استثمار أي فرص أخرى تصب في مصلحة الثورة بشكل عام”.
وحاولت تركيا إعادة تأهيل “تحرير الشام” عبر دمجها مع “الجبهة الوطنية” و”الذهاب إلى الاعتدال”، لكن جميع المحاولات فشلت ولم تفلح، بحسب “أبو هنية”، الذي اعتبر أن “تحرير الشام تحاول التلاعب بكل الأطراف مستفيدة من الوضع الموجود في إدلب كمنظمة لها اليد العليا ولديها تمويلات وهيكلية”.
خيارات محدودة
الأمور “وصلت إلى طريق مسدود، ومسار تحرير الشام مغلق، ولا يوجد هناك أي منفذ لهذه الحركة، كونها بالنهاية حركة مصنفة إرهابية لدى جميع الأطراف بما فيها أمريكا وروسيا والأمم المتحدة وتركيا، التي لم يعد ممكنًا لها الصبر أكثر على الهيئة” بحسب “أبو هنية”.
فعقب عمليات إعادة الهيكلة والتأهيل ومحاولات الإدماج لـ”الهيئة”، والتعامل معها كحركة معتدلة، وفي ظل عدم وجود تفاعل إيجابي، فإن خيارات “الجولاني” محدودة الآن، ولا حل لها، وفق “أبو هنية”، “سوى ما تطرحه عليها تركيا، وهو الحل والاندماج مع “الجيش الوطني” لتجنيب إدلب والمنطقة ذريعة الإرهاب، التي تدفع روسيا إلى الهجوم على المنطقة.
وأشار الباحث إلى أن الأمور قد تبقى على ما هي عليه في الوقت الحالي في ظل انشغال العالم بفيروس “كورونا”، وقد تحدث هناك بعض التطورات والصدامات العسكرية، لكن تركيا تدرك أنها ستكون معركة كبيرة وتكون فيها خسائر مدنية ونزوح الأهالي، وهذا ما تخشاه.
لكن في حال استمرار الأمر على ما هو عليه، وعدم إدراك “الهيئة” المسار والعمل على الاندماج مع الفصائل الأخرى، أو حل نفسها والذهاب في طرائق مختلفة، فإن الصدام العسكري سيحصل عاجلًا أم آجلًا، لكن ما زال الوقت مبكرًا والأطراف غير مستعجلة وقد يستثمر “الجولاني” الوقت أكثر، بحسب “أبو هنية”.
شارك في إعداد هذه المادة مراسل عنب بلدي في إدلب يوسف غريبي