عنب بلدي – زينب مصري
تراكمت آثار تسع سنوات من الحرب على الاقتصاد السوري، وخرجت كثير من القطاعات الاقتصادية عن الإنتاج، ومع تآكل إجمالي الناتج المحلي ومرافقته لموجات التقلب والارتفاع المتسارع لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، جاءت جائحة فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) لتدق مسمارًا آخر في نعش الاقتصاد، مواكبة التحضيرات لتطبيق قانون “قيصر” والعقوبات الأمريكية والأوروبية، والمشكلات النقدية والمالية في المصارف اللبنانية.
في ظل غياب حديث حكومة النظام السوري وإحصائياتها عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الجائحة، سارع المصرف المركزي في سوريا، منذ منتصف آذار الماضي، ومع بدء الحكومة اتخاذ إجراءات لمنع انتشار جائحة “كورونا” في البلاد، إلى إعلان قرارات مالية واقتصادية، في محاولات لتجنب الآثار الاقتصادية “السلبية” للجائحة، إلى جانب قرارات إدارية متعلقة بتخفيض عدد ساعات الدوام الرسمي في المصارف الخاصة والمؤسسات المالية والمصرفية
حزمة إجراءات
أعلن المصرف المركزي على امتداد شهرين عن حزمة إجراءات، منها تعليق العمل باستيفاء التأمين النقدي بالليرات السورية للمستوردين عبر المصارف العاملة بهدف “تسهيل” عمليات الاستيراد الممولة من قبل المصارف، ولتأمين الاحتياجات والسلع الضرورية من المواد الأساسية ومستلزمات الإنتاج “دون تأخير”، وتعليق تجميد الشيكات المرتجعة والحسابات المصرفية المصنفة على أنها حسابات جامدة وفق القرار رقم “1418”، في الفترة ما بين 15 من آذار الماضي ولغاية 15 من أيار الحالي.
ولاستقطاب الودائع بالقطع الأجنبي في المصارف وجذب الإيداعات الموجودة خارج القنوات الرسمية والمصرفية، أصدر مجلس “النقد والتسليف” في المصرف المركزي قرارًا يقضي بتعديل أسعار الفائدة التي تدفعها المصارف، المسموح لها قبول الودائع بالعملات الأجنبية، على ودائع القطع الأجنبي، محددًا الحد الأدنى لأدنى أجل لأسعار الفائدة بـ3.5% سنويًا على الودائع بالدولار الأمريكي، و1% سنويًا على الودائع باليورو.
وحدد الحد الأدنى لأسعار الفائدة للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين بـ5% سنويًا على ودائع الدولار الأمريكي لأجل سنة، على ألا يقل مبلغ الوديعة التي يجب أن تكون حصرًا نقدية “بنكنوت” عن 50 ألف دولار أمريكي، و1.5% سنويًا على ودائع اليورو لأجل سنة، على ألا يقل مبلغ الوديعة التي يجب أن تكون حصرًا نقدية “بنكنوت” عن 50 ألف يورو.
وبينما استمر “المركزي” في تقديم خدمات الشيكات والحوالات والدفعات النقدية وتسلّم الودائع ودفع البدلات وشراء القطع الأجنبي وتسديد السلف المستحقة، منع تحويل الأرباح من المصارف الخاصة للمساهمين، طالبًا منهم عدم توزيع أي أرباح نقدية من الأرباح المحققة عام 2019، وتاركًا الخيار للمصارف بتدوير هذه الأرباح للعام المقبل، أو بتوزيعها كأسهم مجانية على المساهمين.
اقتصاد “معطل”
في حديث إلى عنب بلدي، قال وزير الاقتصاد في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، إن المصرف المركزي أو هيئة الأوراق المالية، يهدفان من خلال إجراءات عدم توزيع الأرباح المالية على المساهمين والشركات إلى تخفيض عرض النقد في السوق للتخفيف من حدة سقوط الليرة، مشيرًا إلى أن الإجراءات التي يتخذها المصرف المركزي من الممكن أن تسيطر على الخسائر الاقتصادية لمدة قصيرة وبشكل محدود “جدًا”، ولن يكون تأثيرها واضحًا في ظل الانهيارات المتتالية، وذلك لوجود “معضلة” في الاقتصاد السوري، كغياب الإنتاج والناتج المحلي والصادرات، وخروج معظم مناطق وجود الثروات عن سيطرة النظام.
الأمر الذي أكده المحلل الاقتصادي عبد الناصر جاسم، الذي يعتبر أن المصرف المركزي “معطل وقراره مصادر”، وهو بشكل عملي “اسم دون مضمون”، والسوريون في الداخل من أصحاب الأعمال والمواطنين العاديين “يعرفون أنه لم يعد يمتلك أدوات ليحركها في السوق ويترك أثرًا”، وهذا ما يُعطي نتيجة حتمية، بحسب تعبيره، بأنه لا دور للإجراءات التي يتخذها في تحسين الواقع الاقتصادي، ولا تحد من خسائره.
لا قطع أجنبي
المحلل عبد الناصر الجاسم، الذي قابلته عنب بلدي، قال إن ملف الحسابات الجامدة والشيكات المرتجعة والقروض “متوقف”، ونسبة تحرك السندات الموثقة والأموال والقروض لا تتجاوز 12%، لذلك يرى أنه لا وجود لأي دور لإجراء تعليق العمل ببعض تعليمات الحسابات الجامدة في الحد من الخسارات المالية والاقتصادية.
بينما يرى المحلل الاقتصادي جلال بكار أنه ليس في يد المصرف المركزي “حيلة” لكي يتخذ أي إجراءات لأنه لا يملك النقد الأجنبي، فـ”احتياطي النقد الأجنبي في سوريا بحسب المصادر الدولية صفر”.
إقطاعات مالية
مجلس “النقد والتسليف” في المصرف كان قد أصدر، في 26 من آذار الماضي، قرارًا يسمح بموجبه للمصارف بتأجيل أقساط القروض المستحقة على العملاء، لمدة ثلاثة أشهر، مع عدم سريان أحكام القرار على القروض الجديدة الممنوحة، مؤكدًا على ضرورة التزام المصارف بعدم فرض أي عمولات أو غرامات أو فوائد تأخير على هذا التأجيل، وضرورة تنسيق المصارف مع عملائها لتنفيذ مضمون القرار.
إلا أن المصرف التجاري السوري لم يطبق قرار “المركزي”، وطالب المقترضين بدفع الأقساط الشهرية المترتبة عليهم دون تأخير، مهددًا بفرض غرامات مالية، على لسان معاونة مدير عام المصرف، ميساء كديمي، التي قالت في حديث لإذاعة “شام إف إم” المحلية، في 13 من أيار الحالي، إن موضوع تأجيل سداد القروض لا يزال قيد الدراسة، بين المصرف التجاري ومصرف سوريا المركزي ووزارة المالية، وإن الإجراءات تحتاج إلى “وقت طويل” ليتم البت فيها، مشيرة إلى أنه يجري العمل على الموضوع منذ صدور القرار الحكومي، وموضحة أن “إجراءات المصرف تستغرق وقتًا”.
وزير الاقتصاد في “الحكومة المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، عزا عدم تطبيق المصرف التجاري قرار “المركزي” بتأجيل أقساط القروض إلى وجود التزامات على المصارف واجب تسديدها، وإجراء “المركزي” لن يساعدها في أداء التزاماتها تجاه العملاء، مشيرًا إلى أن تطبيق قرارات كهذه ليس سهلًا، لأنها ستسبب “عسرًا” للمصارف، لن يمكنها من منح أموال وخاصة للمودعين، وقد يؤدي هذا الأمر في مرحلة من المراحل إلى إفلاسها.
بينما أرجع المحلل الاقتصادي عبد الناصر جاسم السبب إلى “غياب الهيكلية التنظيمية في سوريا، بحيث تصدر تعليمات من المركزي وتنفذها بقية المصارف أو المؤسسات المالية”، متحدثًا عن وجود “إقطاعات مالية وليس مصارف”، ويرى أن الأمر يعود في تطبيق القرار من عدمه إلى “مدير المصرف أو القطاع المالي وولاءاته”، فمن الطبيعي، بحسب تعبيره، ألا تكون قرارات “المركزي” نافذة في المصرف التجاري.
كان آخر قرارات “المركزي” حتى تاريخ إعداد هذا التقرير، السماح للمواطنين السوريين العائدين من الخارج، ممن تكون نقطة بداية سفرهم من خارج سوريا إليها، أي حاملي البطاقات المدفوعة خارج بلد بداية السفر (SOTO)، بدفع سعر تذكرة الطيران في سوريا عند عودتهم وبالليرة السورية، معتمدًا بتحديد قيمتها على سعر صرف القطع الأجنبي في النشرة الجمركية مقابل الليرة وقت إصدار البطاقة.
ووفقًا لتصريحات وزارة النقل في سوريا، فقد وصل عدد السوريين المغتربين الذين نُقلوا إلى سوريا إلى نحو 1200 راكب، حتى 11 من أيار الحالي، مرجحة عودة نحو عشرة آلاف مغترب خلال الأيام المقبلة.
أين “المركزي” من سعر الليرة؟
وعن اتخاذ المصرف إجراء السماح بدفع التذاكر في سوريا، قال عبد الناصر جاسم إن النظام يحاول الاستفادة من فروقات سعر الصرف في مراحل معينة، إذ يوجد الآن في سوريا أربع نشرات لسعر الليرة مقابل الدولار، النشرة الجمركية أو التعرفة الجمركية الخاصة بالتجار والصادرات والواردات، وسعر الصرف المعتمد والذي من المفترض أن يقره المصرف كل أربعة أشهر، وينظر فيه في الأزمات، والسعر الذي يفرضه الصرافون بالاتفاق بين بعضهم وهو سعر غير رسمي، بالإضافة إلى سعر التعاملات الفردية والمباشرة في السوق السوداء.
وعلى الرغم من تراجع قيمة الليرة السورية أمام الدولار بشكل متسارع، إذ بلغ سعر الصرف بحسب موقع “الليرة اليوم”، المتخصص بأسعار العملات، في 16 من أيار الحالي، 1580 ليرة للدولار الواحد للشراء و1600 للمبيع، لم يعلن “المركزي” عن أي إجراءات للتصدي لهذا الانخفاض، مسجلًا 700 ليرة سورية للدولار الواحد سعرًا ثابتًا وفق نشرته المصرفية.
ويكمن السبب وراء غياب إجراءاته، بحسب عبد الناصر جاسم، في غياب قدرته على ضخ الكميات الكبيرة من الأموال التي من الممكن أن تصنع حالة توازن، بالإضافة إلى “غياب الإرادة الحقيقية لدى إدارة هذا القطاع، غير المستقل والمرتبط بإرادة نظام الحكم، لمواجهة الانهيار، خاصة أن الطبقة الحاكمة أو الإدارات المالية ليست متضررة، والضرر واقع على الفئة الأضعف (المواطنين)”.