“زجاج”.. الطبقة الوسطى تنهار مجددًا
نبيل محمد
في أواخر عام 2015، عرض المخرج المسرحي السوري أسامة غنم مسرحيته “زجاج”، المقتبسة عن نص “مجموعة الحيوانات الزجاجية” للكاتب الأمريكي “تينيسي وليامز” (1911- 1983)، على خشبة مسرح “فواز الساجر” في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، عرضٌ لاقى صدى على الأقل في الأوساط الصحفية والفنية المهتمة بالمسرح والثقافة في دمشق، أو من تبقّى من تلك الأوساط هناك، في ظل جفاف المنتج، بعد أن غاب أغلبية رواده بين مهجَر وسجن وقبر.
واليوم وبعد خمس سنوات من العرض، صادف أن أُتيح مؤخرًا عبر الشبكة للمشاهدة في زمن العزلة الذي تسابقت فيه شركات إنتاج ومحطات تلفزة وفرق فنية لإتاحة ما لم يكن متاحًا سابقًا للمشاهدة في المنزل. فكان عرض “زجاج” ضمن ما يمكن لسوريين، اعتادوا قبل 2011 مشاهدة كل ما تقدمه خشبات دمشق القليلة بعددها وعروضها، مشاهدته وهم في الخارج، بعد سنوات قطيعة عن كل ما يعرض في بلادهم منذ سنوات طويلة.
كما النص الأصلي، يعرض “زجاج” التداعيات الأولية لانهيار الطبقة الوسطى، فإن كان “وليام” افترض انهيارها في ثلاثينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة بسبب أزمة الكساد الكبرى، فإن “غنم” يعرض هذا الانهيار في سوريا بمظهره الداخلي ضمن جسم الأسرة، بعد سنوات من الحرب، الحرب التي تبدو مسببًا أساسيًا لكل ما تعيشه أسرة سورية تمثل الطبقة الوسطى أو بقاياها.
من أمٍّ تنتمي إلى عائلة ثرية، تخلت عن أجواء الثراء تلك لتتزوج من أحبته، ذلك اليساري الذي هجرها مسافرًا إلى الخارج تاركًا إياها تصارع الواقع المرير مع ولدين، وابنة خريجة النقد المسرحي، تعاني من اضطرابات نفسية وانغلاق على الذات نتيجة جرح قديم في جبينها، تلازم حيواناتها الزجاجية التي جمعتها من أماكن مختلفة، وابن عاشق للسينما يعيل أسرته من خلال عمله في محل حلويات في “مول” بدمشق.
أكثر من ثلاث ساعات من الحوارات المنزلية، التي تبدأ من “إتيكيت” شرب الماء، ولا تنتهي بأحادث معمقة عن النجاح والفشل، الضعف والقوة، المال، الحب. تتخلل تلك الحواراتِ مصارحات الابن أمام الكاميرا، في محاولته تصوير فيلمه، ذاك الذي لم يتم انتقاؤه لدعمه من قبل الصندوق العربي للثقافة والفنون، ليتحول ذلك الفيلم إلى مستخلص لمقولات العرض، بل وليقسّم العرض الطويل أيضًا إلى مشاهد، عله يكسر من برودة الحوارات خاصة في غياب الأم (سوسن أبو عفّار) المحرك الأساسي للعمل، والمخفف من وطأته وتشابه مشاهده وطول حواراته.
ليس جديدًا اعتماد مقولة انهيار الطبقة الوسطى كثيمة عمل فني سوري، لعلها أكثر مقولة كررتها أعمال درامية سورية في التلفزيون، كما لم تكن بعيدة عن عدسات مخرجين سينمائيين، ولعل كثرة تناول هذه المقولة ونقاش نتائجها، وغض النظر نسبيًا عن أسبابها، فتحت الباب أمام نظريات خلافية لتحدد متى انهارت هذه الطبقة أو بدأت بالانهيار؟ هل بدأ انهيارها منذ سيطر “البعث” على الحكم في سوريا، أم في مطلع التسعينيات؟ أم مع نشوء طبقة عمالقة الاقتصاد الجديدة مطلع الألفية الثالثة، أم بعد 2011؟ قد لا يبدو مهمًا ذلك التوقيت، ولعل عرض “زجاج” لم يحدده تمامًا، في مقصد لا يختلف عن مجمل الأعمال السورية التي تتحاشى الحديث عن أسباب الانهيار وتذهب إلى استقراء النتائج فقط، فالحديث عن الأسباب هو مواجهة معها، مع نفس السلطات التي سمحت لهذه الأعمال بالظهور، وفتحت لها أبواب المسارح. إن بقاء الانهيار حبيس حديث أسرة، هو صمام أمان العمل.. ومرور الحدث السوري المهول من خلال كلمات بسيطة عن قذائف “الهاون” التي تسقط في دمشق، هو مشابه تمامًا للحديث عن اختفاء الطبقة الوسطى دون الإِشارة إلى الوحوش التي التهمتها، إبقاء الحرب بمجملها عبارة عن قذائف تسقط في العاصمة لا أكثر، وجيل يحاول الهروب من بلاده، هذا ربما ما يضمن عرض العمل، والإمتاع في بعض التفاصيل، وتصفيق الجمهور، ثم عودته إلى بيته ليكمل مشهد الانهيار.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :