تفكك نظام الاستبداد السوري.. وتغيير يشبه فاعليه
أسامة آغي
حين رسم حافظ الأسد، مؤسس دولة الاستبداد في سوريا، خارطة لديمومة حكمه، استطاع فهم تكوين المجتمع السوري من جهة، وفهم أنظمة الحكم العربية وتناقضاتها، فارتأى أن يقوم حكمه على ثلاث ركائز، هذه الركائز تمثلت بأضلاع مثلث متساوي الأضلاع.
الضلع الأول هو فرض هيمنة حكم عسكري/ أمني، وهذا ما فعله حافظ الأسد، حين أنشأ عددًا كبيرًا من الأجهزة الأمنية، التي أراد لها التدخل والهيمنة في كل مفاصل الحياة العامة في البلاد، ووضعها في دائرة تنافس عمل، ومهام، ومراقبة بعضها بعضًا، إلى جانب مراقبة المجتمع.
الضلع الثاني في مثلث الاستبداد، تمثّل باحتكار الاقتصاد ببواباته الكبرى، وهذا يعني تنمية الثروة بطرق غير قانونية، وتحويل “القطاع العام” إلى بقرة حلوب لخدمة هذا النظام، والسماح لغاسلي الأموال بالسيطرة على مناحي الاقتصاد السوري في قطاعاته الكبرى، مثل الاتصالات والبنوك والشركات القابضة والنقل وغيرها كثير، أي احتياز سلاح الاقتصاد.
الضلع الثالث في مثلث الاستبداد السوري هو الحاضنة الشعبية، هذه الحاضنة كانت برأي حافظ الأسد طائفته الدينية، التي ينتمي إليها، وهذا يعني فسح المجال لهذه الطائفة بالتورط من خلال انتهاك حقوق بقية مكونات المجتمع السوري.
مثلث السيطرة السياسية والهيمنة الاجتماعية، كان يجد تبريره لدى النظام من خلال الاختباء خلف شعارات ذات طابع وطني وقومي تحرري، في وقت كانت ممارسته السياسية والاقتصادية والاجتماعية تسير عكس شعاراته، وهذا تناقض جوهري في بنية النظام، ما يسمح بانتقال هذا التناقض إلى مستوى الصراع.
الثورة السورية التي تفجّرت عام 2011، كانت ذات هدف واضح وجلي، تمثّل بشعاراتها، التي تريد دولة ديمقراطية تداولية، وتريد حريات متكاملة وفي مقدمتها الحريات السياسية، وهذا يعني بفهم النظام تفكيك مثلث ركائز حكمه الاستبدادي، وهو أمر أرعبه، ودفعه لسحق هذه الثورة، دون التفكير ولو للحظة واحدة بضرورة تقديم تنازلات سياسية واقتصادية لمصلحة المجتمع وبناه المختلفة.
النظام الاستبدادي القائم على الركائز الثلاث، يدرك تمامًا أن خسارته لأي من أضلاع مثلثه الاستبدادي، تعني احتمال انفراط حكمه وهيمنته، ولهذا عمل على تمتين لحمة عمل الأضلاع الثلاثة بشتى الوسائل والطرق.
كانت أولى هذه الطرق، وضع المنتفعين من نظام حكمه الاستبدادي الفاسد في مواجهة استحقاقات ما اكتسبوه، عبر حمايته لهم، وتسهيلاته لنشاطهم الاقتصادي، الذي يتسم في غالب الأحيان بشراكته الخفية فيه، وهذا يعني استخدم الثروة المنهوبة وغير الشرعية من أجل الدفاع عنه للنهاية.
لم يدر ببال النظام، أن الثورة السورية قادرة على التجدد والاستمرار، وهذه الحالة، التي امتدت ولا تزال لأكثر من تسع سنوات، عملت على خلخلة أضلاع حكم النظام، وخلخلة ركائز سيطرته على الدولة والمجتمع السوريين، وهو أمر انتقل إلى صيغة نزيف حقيقي في جسد الحاضنة الطائفية، التي استفادت من بعض فتات النظام، مقابل القبول بتقديم أبنائها أضحيات لاستمرار حكم الاستبداد والقهر الاجتماعي، دون حساب لاعتبارها مكونًا من مكونات النسيج السوري.
نزيف الطائفة التي ينتمي إليها النظام، عبّر بالضرورة عن نزيف الضلع العسكري الأمني في مثلث سيطرة الاستبداد، ولكنّ النزيفين لم يؤديا إلى خلخلة نهائية لمثلث السيطرة.
الخلخلة الحقيقية ستأتي من داخل بنية النظام الاقتصادية، التي انبنت على الفساد والعمليات الاقتصادية المخالفة لشرعة القوانين الدولية، ومن هذه العمليات تجارة المخدرات التي كانت تتم عملية زراعة نباتاتها المخدرة في البقاع اللبناني وبرعاية حليفه “حزب الله” اللبناني، وكذلك عمليات تهريب الأسلحة، وعمليات غسيل الأموال القذرة الناتجة عن العمليات الاقتصادية غير القانونية.
البنية الاقتصادية للنظام الاستبدادي السوري هي بنية مغلقة عليه، ولهذا حين وصل الصراع السوري إلى عتبة تشابك الأجندات الإقليمية والدولية في مجراه، وتمّ فرض عقوبات على نشاطه، وآخرها قانون “قيصر” الأمريكي الشهير، فإن هذه البنية ستتآكل بسرعة، وتنشأ بين أذرعها صراعات السيطرة، لا سيما أن القوتين المسيطرتين في الصراع السوري من جهة النظام هما القوة الروسية وما تمثله من مصالح استراتيجية ومرحلية، وكذلك القوة الإيرانية وما تمثله من مصالح تتناقض مع مصالح روسيا في هذا البلد.
ولفهم الأمر أكثر، فإن الصراع المحتدم بين تيار زعيم الاقتصاد السوري غير الشرعي رامي مخلوف، وممثلي الهيمنة الإيرانية من آل الأسد، هو صراع انتقل إلى داخل بنية النظام الاقتصادية والسياسية بسبب تراجع قبضته على الحكم لمصلحة القوتين الروسية والإيرانية.
الصراع الحالي بين رامي مخلوف وآل الأسد، هو صراع بين النفوذ الإيراني الذاهب إلى مواجهة مع الغرب وإسرائيل، والنفوذ الروسي، الذي يتجه إلى صفقة مع الغرب. هذا الصراع وصل إلى مرحلة كسر العظم بالمعنى الاقتصادي والسياسي، وهو يرتّب على الطرفين استحقاقات مرحلة مقبلة، عبّر عنها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في ندوة صحفية قال فيها، “إن روسيا ليست حامية لنظام الأسد”، وهذا يختلف مع جوهر السياسة الروسية، التي استخدمت “الفيتو” أكثر من عشر مرات في مجلس الأمن حماية لهذا النظام.
وفق هذه الرؤية، يمكننا القول، إن مرحلة جديدة في الصراع السوري بدأت تشقّ طريقها، هذه الطريق ترتكز على تفكيك مثلث ركائز حكم نظام آل الأسد. ولهذا لن يقف هذا الصراع داخل بيت النظام، إلا بمحاولة كل طرف فيه الانتصار على الطرف الآخر.
الانتصار هنا ليس انتصار رامي مخلوف أو انتصار آل الأسد، فهؤلاء خسروا الصراع لمصلحة أجندات المتدخلين الإقليميين والدوليين.
الانتصار هنا سيكون انتصارًا لأحد تياري الهيمنة العسكرية والنفوذ السياسي، روسيا أو إيران، ولذلك فالخاسر الأكبر في معادلة هذا الصراع هو الشعب السوري، الذي قامر نظام استبدادي بثرواته واستقلاله مقابل وهم بقائه في سدّة الحكم.
النظام بركائزه الثلاث في طور تفككه النهائي، وهذا ما ظهر جليًا في التصريحات الروسية، وآخرها ما تحدث به بوتين. ولذلك يمكن لقوى التغيير في سوريا، بغض النظر عن اتجاهاتها الأيديولوجية، البحث مع شركاء محتملين بين المكونات السورية الأخرى، ممن لم يتورطوا بقتل ونهب الشعب السوري، لرسم، أو المشاركة برسم خارطة طريق، تنهي الاحتلالات الأجنبية، وتعمل على بناء دولة مواطنة بحدٍ مقبول، ما دام النفوذ الخارجي لا يزال ساري الفعل والوجود في هذه المرحلة.
بقي أن نقول، إن نظام الاستبداد يلفظ أنفاسه الأخيرة، وإن تغييرًا قادمًا سيحدث ولكن ليس كما أراده السوريون، بل سيكون تغييرًا يشبه فاعليه.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :