بين حيدر ومخلوف.. خطوط حمراء رسمها الأسدان لعرّابي الاقتصاد
عنب بلدي – مراد عبد الجليل
الظهور النادر والمفاجئ لرجل الأعمال السوري رامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام السوري، بشار الأسد، وهو يتحدث عن تعرضه للضغوط من قبل شخصيات محيطة بـ”صاحب القرار” من أجل التنازل عن الأموال، لم يكن حدثًا عابرًا لدى السوريين على مختلف توجهاتهم السياسية، ولدى الدول المؤثرة بالملف السوري.
يعتبر رامي مخلوف الذراع الاقتصادية للنظام، على مدى العقدين الماضيين، ويتربع على عرش إمبراطورية الأعمال من الاتصالات إلى العقارات والنفط وغيرها، ولذا تحولت تسجيلاته المصوّرة إلى مؤشر على مستوى الصراع بين الطرفين.
وضجت وسائل الإعلام والصحف العالمية بعشرات المقالات التي تحلل وتتنبأ بالأسباب التي تقف وراء ظهور الرجل “المقرب من الرئيس” بهذه الطريقة، والرسالة التي أراد إيصالها، بين صراع على السلطة والنفوذ، وانتهاء الدور ووجوب دفع فاتورة ثروته التي سهلت له السلطات طرق الوصول إليها، وذلك بحجة دعم الاقتصاد المتهاوي وتلميع صورة الأسد بمحاربته الفساد والفاسدين، أمام مؤيديه أولًا، وأمام الدول الداعمة له ثانيًا، وأولاها روسيا.
يتضح من خلال ظهور مخلوف أن التاريخ يعيد نفسه في سوريا، إذ تكرر هذا السيناريو مع شخصيات سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، خدمت الأسدين (الأب والابن) وانتهت أدوارها بطرق مختلفة، بحسب أهمية الشخص وتجاوزه الخطوط الحمراء التي رُسمت له من قبل العائلة الحاكمة.
ويقول وزير الاقتصاد في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، لعنب بلدي، إن لكل شخص في سوريا خطًا أحمر، ولكن تختلف هذه الخطوط من شخص إلى آخر، وأهم خط يُمنع الاقتراب منه هو الكرسي والنزاع على السلطة.
محمد حيدر.. “مستر 10%”
على مدى العقود الخمسة الماضية، برز رجالات في بعض منافذ الدولة لتنفيذ المخططات والقرارات، مرتبطون بشكل مباشر بالعائلة الحاكمة.
وقال رجل الأعمال السوري فراس طلاس، ابن وزير الدفاع السابق، مصطفى طلاس، في لقاء مع قناة “روسيا اليوم” في 4 من أيار الحالي، إنه “بعد عام 1975 ومع قدوم أموال الخليج إلى سوريا عقب حرب تشرين، بدأ ظهور طبقة التجار مع طبقة المسؤولين، وبدأت فكرة النسب على الكومسيون (على المشاريع المراد تنفيذها) من قبل رفعت الأسد وجماعته ومحمد حيدر وجماعته”.
وأضاف طلاس أن الاقتصاد السوري منذ ثلاثين عامًا يتعرض لـ”الشفط” من عائلة الأسد، مشيرًا إلى أنه لا توجد مراكز قوى في سوريا، وإنما كان هناك سبعة إلى ثمانية أشخاص من الدرجة الثالثة مع حافظ الأسد، “يعطي كل فترة لأحدهم الضوء للبروز إلى الساحة ليكون مركز قوة مستمدة من حافظ نفسه”.
وأسهم هؤلاء الأشخاص في توطيد حكم العائلة، قبل أن يلاحَقوا لاحقًا، ومن هذه الشخصيات محمد حيدر الذي ترأس عدة مناصب مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، ليكون أول من يفتح باب الفساد على مصراعيه في الحكومة، كما يقول مصدر مطّلع على تفاصل تلك المرحلة لعنب بلدي، تحفظ على ذكر اسمه.
حيدر من مواليد بيت ياشوط في جبال اللاذقية عام 1931، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة دمشق عام 1959، وتقلد منصب مدير عام مؤسسة الغاب التابعة لوزارة الزراعة عام 1963، وكان محافظًا للحسكة في عام 1966، قبل أن يُعيّن وزيرًا للزراعة والإصلاح الزراعي في 1971.
لكن المنصب الأهم لحيدر كان عندما عُيّن نائبًا للشؤون الاقتصادية لرئيس مجلس الوزراء (محمود الأيوبي حينها)، ليتفرغ للاقتصاد بشكل كامل، ويبدأ مرحلة إيجاد دولة بديلة بدعم من الأسد الأب، مغايرة للدولة القائمة على القوانين والأنظمة، بحسب المصدر، الذي يقول إن حافظ الأسد كانت لديه مشكلة في تطويع الدولة التي تقوم على القوانين وتوجد فيها تراتبية صارمة، فبدأ بالبحث عن حركة التفاف بخلق دولة في الظل.
وعمل حيدر على زيادة الهيمنة، عبر تشكيل مجموعات وزارية برئاسته، كما شكل المجلس الأعلى للشركات لإدارة مؤسسات الدولة العامة الكبرى، بعيدًا عن أعين الوزراء المختصين، وأعطى مديري الشركات صلاحيات واسعة استثنائية تفوق صلاحيات الوزير، ووضع تحت تصرفهم ميزانيات مالية ضخمة لإبرام الصفقات وعقود الاستيراد والتصدير، مستثناة من الجمركة ومن القوانين، ومن هؤلاء المديرين كان مدير عام مؤسسة الإسكان العسكرية، خليل بهلول.
ونتيجة حرية الحركة التي مُنحت لحيدر، تمكن نظام حافظ الأسد من السيطرة على العصب الاقتصادي للدولة، بعد تحوّل كل شيء إلى يد المؤسسات والشركات التي كانت تحت أوامر حيدر، الذي أصبح لقبه “مستر 5%” وهي نسبة العمولة التي كان يتقاضاها عن أي صفقة أو مشروع يراد إنجازه، وهو ما أثبته الكاتب البريطاني باتريك سيل، في كتابه “الأسد والصراع على الشرق الأوسط“، قبل أن ترتفع النسبة لاحقًا ويصير لقب حيدر “مستر 10%”.
وبقي حيدر في منصبه حتى عام 1976، لتبدأ المحاسبة التي أخرجته من القيادة القطرية لحزب “البعث” الحاكم في عام 1980، في حين صدر في آب 1984 قرار بحقه يقضي بمنعه من أي عمل حزبي أو سياسي، قبل أن يحاكم غيابيًا عام 1999، كونه خارج سوريا، بسبب إصدار كتابه “البعث والبينونة الكبرى” وليحكم عليه بالاعتقال المؤقت لمدة 15 عامًا، قبل وفاته في 2017.
وعلى الرغم من الخدمة التي قدمها حيدر للأسد الأب، إذ مهد له السيطرة على الاقتصاد، فإن تخطيه الخطوط الحمراء المرسومة له وقربه من رفعت الأسد، الذي حاول السيطرة على السلطة، وجعله مستشارًا له، بحسب ما ذكره مصطفى طلاس في كتابه “ثلاثة شهور هزت سوريا“، في ثمانينيات القرن الماضي، دفعت النظام لمحاسبته ومعاقبته.
العقوبة بحسب الأهمية
ولم يكن حيدر الرجل الأخير في سلسلة الشخصيات التي عاقبها النظام السوري لتجاوز الحدود، ومن الذين جرت محاسبتهم، رئيس مجلس الوزراء، محمود الزعبي، الذي ترأس الحكومة مدة 13 عامًا بين عامي 1987 و2000، قبل ينتحر إثر اتهامه بالفساد، بحسب الرواية الرسمية، التي ينفيها رئيس فرع الأمن الجنائي الأسبق، اللواء محمود علي، ويؤكد أنه قُتل بثلاث رصاصات.
ويقول المصدر المطّلع، الذي شغل مناصب قيادية في مؤسسات الدولة السورية، إن الزعبي طلب منه التقاعد والخروج من الحياة السياسية بما حصّله خلال فترة حكمه، لكنه رفض وطلب أكثر من حصته، وهدد بفضح عمليات الفساد، فقُتل، ولو بقي داخل الخط المرسوم له لكُرّم ولم يقترب أحد منه، مثل رئيس مجلس الوزراء، محمد مصطفى ميرو، الذي هُدد عندما أراد التكلم بفتح ملفات الفساد، وعندما سكت صُرف النظر عنه، وأُعطي منصب رئيس اللجنة الشعبية العربية السورية لدعم الشعب الفلسطيني.
وإضافة إلى الأسماء السابقة، يبرز سليم ياسين الذين تسلم منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية لمدة 15 عامًا، قبل اعتقاله في عام 2000 بتهمة اختلاس الأموال وحُكم عليه بالسجن عشر سنوات وبغرامات كبيرة، إضافة إلى وزير النقل في حكومة الزعبي، مفيد عبد الكريم، الذي اعتُقل لنفس السبب وحُكم عليه بدفع عشرة ملايين دولار وبالسجن عشرة أعوام، بحسب ما نقلته صحيفة “البيان” الإماراتية عن صحيفة “البعث” الحكومية، إلى جانب شخصيات عسكرية كان لها وزنها مثل غازي كنعان ورستم غزالة.
أما رامي مخلوف، فرغم عدم وضوح الصورة إلى الآن حيال قضيته مع الأسد، فإن ذلك قد يكون تكرارًا لما حصل معه عام 2004، عندما اعتبر أن لديه حقًا في نقل استثمارات إلى دبي حيث يريد تملك عقارات وأبراج، فبدأت السلطات بالتضيق عليه والتصدي لهذه المحاولات، قبل توسط شخصيات سياسية واقتصادية لحل الخلاف بينهما.
المؤكد إلى الآن أن النظام السوري بدأ الضغط بشكل رسمي على مخلوف، وهو ما ألمح إليه في تسجيله المصوّر عندما قال، إن “الأجهزة الأمنية بدأت تعتقل موظفي الشركات”، متسائلاً “هل يتوقع أحد أن تأتي الأجهزة الأمنية إلى شركات رامي مخلوف وتعتقل موظفين، بعدما كان مخلوف أكبر داعم لهذه الأجهزة وأكبر خادم وراعٍ لها في أثناء الحرب؟”.
هذا الضغط هدفه الأول تحصيل أموال وطلب التنازل عنها، وهو ما أكده في تسجيله الثاني بالقول، “يطلبون مني ويضغطون، وأنا لن أتنازل. أنا موجود”.
وحول الخلاف، يعتقد فراس طلاس في مقابلة مع قناة “الحرة” الأمريكية، في 9 من أيار الحالي، أن “بشار الأسد لا يريد أن يتخلص من رامي مخلوف، ولكنه يريد أن يعرف المزيد من الإدارة للثروة، التي يوجد قسم كبير منها بعدة دول في العالم، كما أن أسماء الأسد تسعى للسيطرة على الأموال بحجة الإرث لأولادها”.
وقال طلاس، إن الخلاف على الثروة ليس انشقاقًا لمخلوف، وإنما هو نوع من التمرد على الأبواب التي أُغلقت بوجهه مع الأسد.
لكن بعد خروج الخلافات إلى العلن، يبقى انتظار طريقة العقاب، التي تحددها أهمية الشخص، بحسب وزير الاقتصاد في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، الذي قال إن “عقوبة تجاوز الخط الحمراء تتبع لأهمية الشخص بالدولة ومنصبه، وهل هو من العائلة أم من الطائفة الحاكمة فقط أم غير ذلك، وتختلف طريقة العقوبة من طائفة لأخرى”.
واستبعد المصري قتل مخلوف لأنه مقرب من العائلة الحاكمة، وإنما سيتم استبعاده ببعض المكاسب التي جناها مثلما حصل مع رفعت الأسد، الذي سمح له شقيقه حافظ بالخروج من سوريا مع ملايين الدولارات.
في حين أوضح طلاس أنه بحسب معلوماته، تم الاتفاق على مغادرة رامي مخلوف بهدوء من سوريا، بعد اعتذار عن التسجيلات، وتنازله عن الشركات الموجودة، وأهمها شركة “سيرتيل” و”راماك الإنسانية” وهي لا تمثل 10% من الثروة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :