خليفة خضر
منذ مدة زارني قريب لي في مدينة الباب شرقي حلب، قادمًا من الرقة، انتظرته وبدأت عن طريق الهاتف أخبره مكان بيتي بالضبط، ليقول لي “سأركى” لعندك، لوهلة لم أفهم ما يخبرني به وما قصده بكلمة “أركى”، ساد صمت بيني وبينه حتى تذكرت معنى الكلمة وأخبرته ” أي أركى.. أركى”، أي باللهجة الشاوية “أصعد باتجاهك”.
تذكرت هذا الموقف الذي دار بيني وبين أحد أقاربي، وكيف كنت أفكر ببعض كلماته التي يتحدث بها في أثناء زيارته، وأربطها بمواقف حدثت معي، أو متى قيلت أمامي هذه الكلمة، والسياق الذي تم تداولها فيه، لأستطيع فهم ما يقوله لي، فالمدة الزمنية التي حالت بيني وبين زيارة الرقة ولّدت في جعبة لهجتي كلمات جديدة، وأخذت مني كلمات كنت أتلفظ بها في صغري.
تذكرته عندما فشلتُ بالنجاح باجتياز اختبار وتحدي اللهجات السورية على موقع “فيس بوك”، إذ فشلتُ بالنجاح في اجتياز امتحان اللهجة الشاوية، وعندها نظرت حولي لعل أحدهم لا يراني (لم يكن أحد موجودًا) ولكن خجلت! أقنعت نفسي أن ذلك يعود لقضاء عمري في حلب، فمن الطبيعي ألا أحقق النسبة المئوية باختبار اللهجة الشاوية، ومن الطبيعي اجتياز اختبار اللهجة الحلبية، لكني أيضًا لم أحقق النسبة المئوية المطلوبة في اختبار اللهجة الحلبية. تلفتّ حولي وخرجت على عجل من رابط الاختبار لئلا يراني أحد!
لكن إذا جمعت العلامات الناتجة عن اختبار اللهجات، التي أجريتها على عدة مجموعات غير منتظمة على موقع “فيس بوك”، لعدة مناطق سورية، سأحصل على العلامة التامة أو أقل بقليل، واثق من ذلك.
قبل اندلاع الثورة السورية في آذار عام 2011 ، كانت نسب احتكاك المجتمعات السورية بين بعضها ضئيلة ومحدودة، وفي بعض الأماكن الجغرافية المحددة، كالجامعات أو الخدمة الإلزامية، وفي كلتا الحالتين لا يحقق الاندماج مراده من تعرّف إلى المجتمعات بطريقة صحية، وتبادل بعض الكلمات والعادات فيما بينها، فلا الخدمة الإلزامية التي كانت تسودها العنصرية والتنميط مكان آمن للاندماج وفتح قنوات التواصل الحقيقية، ولا الدراسة الجامعية التي يسبقها تحذير الأهالي لأولادهم من التعرف إلى فلان وفلان من المكان الفلاني.
ولّد ذلك تخوّفًا من الاحتكاك والاندماج بين الفئات الشبابية من المجتمع، وإن حدث احتكاك ولا بد، كان يشوبه الحذر، خوفًا من نظرة مسبقة موجودة لدى الشخص تجاه من يجلس معه، أو تعلّم بعض الكلمات والعبارات للتلفظ بها من باب السخرية أو التنميط أو لفظها بطريقة غير لائقة ولا أخلاقية.
لكن مع موجات التهجير، من أهالي القصير مرورًا بأهالي الرقة وليس انتهاء بأهالي درعا، وحشرهم في الجيب الجغرافي شمال غربي سوريا، ولّدت كثافة التهجير والكثافة السكانية أنماطًا من المجتمعات الهجينة التي نتجت عنها لهجات هجينة من عدة لهجات سورية، وأخذ بعضهم، وأنا منهم، يتلفظ بهذه الكلمات لفهم ما يقصده الآخر أو لتوضيح ما يقال باللهجة الأصلية.
ولّدت موجات التهجير لهجات مهجنة من دير الزور وحمص ودمشق، مرورًا ببعض الكلمات الحلبية والدرعاوية والكردية، وأُنشئت مخارج للحروف لا يتقنها إلا المهجر في شمالي سوريا، إذ يتلفظ الطفل بلهجات من عدة مدن وبلدات سورية، لجهة أهل الرستن مع لهجة أهل البوكمال مع لهجة أهل دوما، ليخرج منها بجمل مفيدة يفهمها أصدقاؤه في المدرسة دون عناء شرح ما لا يستطيع شرحه.
لست بصدد القول إن ما حدث من تطعيم اللهجات هي من إيجابيات التهجير والاندماج بين المجتمعات السورية، بعيدًا عن التنميط المسبق والتخوف الذي يشوب أي علاقة بين أي اثنين من محافظتين مختلفتين، لكن كوني أتحدث عن فشلي باختبار اجتياز اللهجات، كان على القائمين على أمثال هذه المجموعات “الفيسبوكية”، ومن يضعون اختبارات اللهجات، إنشاء اختبار وتحدي لهجة التهجير.
أجزم أني سأفوز، ولن أضطر للتلفت حولي خجلًا.