علبة السردين في زمن الحصار
إبراهيم العلوش
في حين يهدي بشار الأسد زوجته لوحة بثلاثين مليون دولار تكريمًا لها على مساندتها له في تدمير سوريا، تظل لوحة علبة السردين الصفراء هاجس السوريين في زمن الجوع والحصار والانتصارات التي يدّعيها النظام.
ورغم أن لوحة الأسد قد أثارت خلافًا عائليًا مع رامي مخلوف، فإن لوحة علبة السردين لم يلتفت إليها أحد، علمًا أنها صارت جزءًا من التراث السوري، حيث تُكدّس في أزمنة الحصار اعتبارًا من مذابح الثمانينيات حتى إشاعات النيزك القادم لضرب سوريا إبان صراع حافظ ورفعت الأسد، مرورًا بالإفلاس الكبير في نهاية الثمانينيات، عندما عقدت لجنة المصالحة الروسية اتفاقًا بين الأخوين حافظ ورفعت، مقابل أن يتم إهداء الأخير موجودات المصرف المركزي السوري حرصًا على الأمن والأمان وخلود العائلة في موقع السلطة!
وارتفعت أسهم علبة السردين في أثناء الحصارات اللامتناهية التي فرضها النظام منذ بدء الثورة في غوطة دمشق وريفها، وفي درعا وحمص، وصارت حلمًا صعبًا مع تشديد الحصار، إذ انتصر البرغل وحشائش البرية وظلت علب السردين مأسورة على حواجز النظام و”حزب الله”!
ومع استيراد تنظيم “الدولة الإسلامية” مشروب الطاقة الذي كان بمثابة المشروب الرسمي للتنظيم ولمقاتليه، وافقت اللجان الشرعية في التنظيم على استهلاك السردين باعتبار أن علبته لا تزينها رسوم التمائم التي جاء التنظيم خصوصًا لمنعها! وتأكدت تلك اللجان بأن استهلاك السردين، من قبل العوام، لا يعرقل أبدًا قيام دولة الخلافة البغدادية!
يمتد تاريخ علبة السردين عميقًا في التاريخ المعاصر للطعام في سوريا، فمنذ السبعينيات كانت علب السردين الصفراء منتشرة في البقاليات، وكانت تنتظم فوق بعضها بأعمدة متراصة على الرفوف الخلفية منعًا لتعرضها للشمس التي قد تتسبب بانتفاخها وفساد سمكها الصغير السابح في بركة المواد الحافظة التي تحيط به داخل العلبة!
وتطورت صناعة السردين لتأتي محتوية على قرن فليفلة غير مألوف في صغره وفي شدة حدته اللاذعة، وكأنما أصبح مستشار الشركة المنتجة للسردين أحد أبناء إدلب، المدينة المشهورة بالفليفلة وبتخزينها واستهلاكها بشكل مفرط.
وتغيرت ألوان علبة السردين من الأصفر الكمّوني إلى الأحمر وإلى الأزرق، وكانت دائمًا تحتوي مفتاحًا معدنيًا طويلًا يفتحها بهدوء وسكينة تتناسبان مع جوع الزبون الفقير ومع خلو مائدته من أصناف الطعام الأخرى، عدا سلطة الخيار والبندورة أو فحل البصل اليابس!
اليوم في حصار “كورونا” عاد السردين كنزًا يتيح لنا أكل السمك، ويفتح المجال كما كان دائمًا للوجبة الفردية التي يتناولها أحد الجائعين خارج أوقات الطعام الجماعي، معزّزًا بنشرة فوائد السمك، وفوائد عظام السمك التي تقي المرضى من نقص الكلس، كما كنا نروّج دائمًا ونكرّر بأن الأطباء الكبار في حلب وفي الشام يصفون علبة السردين للبنات اللواتي يشكين من نقص الكلس، ولأصحاب الكسور الذين يساعدهم السردين بعظام سمكاته الصغيرة على تجبير العظام وإعادتها إلى سيرتها الأولى!
قد يكون بشار الأسد قد جمع ثروته التي اشترى بها لوحة لأحد الفنانين الإنجليز، من حصته في “تعفيش” الغوطة أو درعا أو ريف إدلب، ولكن جزءًا من ثمنها حتمًا أتاه من التحكم بسعر السردين وبيعه مع المواد الغذائية الأخرى في مناطق الحصار التي كانت تدر عليه وعلى شبيحته الملايين، ولعل الحصار كان أجدى بكثير من حصيلة التعفيش العابرة، التي يكتنفها كثير من اللغط، ومن الشركاء، ومن الفضائح الإعلامية!
لا تزال علبة السردين تنافس البرغل والمجدّرة وتعتبر نفسها طعامًا سريعًا سبق الهمبرغر ونافس سندويشة الفلافل، وحافظ على التوازن العائلي بإسكات الزوج الجائع فجأة، ومنعه من رفع صوته بأقرب طرق الوفاق، وهو اقتحام علبة السردين للطريق العابر من معدته إلى قلبه!
ورغم شعبية علبة السردين، فإن أحدًا لا يتحدث عنها وعن سر استمرارها، وعن حميميتها في زمن الحصار والعوز، ولا أحد يتحدث عنها بحب، وكأنها جزء من عادات وتواريخ مسكوت عنها، أو أن ذكرها يثير العار لآكليها، وتسِمهم بسِمة الفقر والعوز متجاهلين أن الفلافل والفول وغيرهما مما نتغنى بذكره، هي أيضًا من طبقة أدنى بالنسبة للكباب مثلًا!
تنوعت مفاتيح علب السردين وتنوعت ألوانها وتنوعت الحصارات التي وُجدت فيها، ولكنها ما زالت قليلة الشهرة، فحتى هنا، في الأحياء الفقيرة في فرنسا، هجم الناس في أول أيام الحجر الصحي على المواد الغذائية، وكانت علب السردين أول الغائبين عن الرفوف مع المعكرونة والسكّر والطحين، ولكن لم يتحدث أحد هنا في الصحافة وفي الإعلام عن السردين!
ويظل صوت محمود درويش منذ حصار بيروت 1982 هو الأكثر تعبيرًا عن حضور علبة السردين في الحصارات المستمرة: “نفتح علبة السردين فتقصفها المدافع!”، فعلبة السردين هي تميمة الفقراء والمحاصرين، وهي حصتنا من عصر الصيد الذي اختصرناه بسمكتين أو ثلاث بطول سبعة سنتمترات تنتظر في علبتها المعدنية المليئة بالسائل الزيتي الحافظ، وهي تلخص أيضًا كل ما يكتنف حياتنا من تعليب للبشر وللأفكار ضمن حيّز ضيّق من الزنازين، ومن خيام اللجوء، ومن الأحكام المسبقة، ومن الفتاوى الجاهزة!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :