حين أصبح الوعظ مهنة لدى السلاطين
في كتابه “وعّاظ السلاطين” يبحث المفكر العراقي علي الوردي، في طبيعة الإنسان الذي يعتبره الوردي مبتلى من الله بطائفة من “المفكرين الأفلاطونيين” الذين لا يجيدون إلا إعلان الويل والعذاب للإنسان لانحرافه عن المثل العليا التي رسموها بمخيلاتهم، دون أن يقفوا لحظة ليتبينوا المقدار الذي يلائم الطبيعة البشرية من تلك المثل.
ينتقد الوردي عبر صفحات الكتاب “الوعظ الشكلي”، إذ اعتاد المفكرون أن يرجعوا علّة ما يعانيه البشر من فساد اجتماعي إلى سوء أخلاقهم، وبذلك فإن الإصلاح هو أمر ميسور بالنسبة للمفكرين، “فبمجرد أن نصلح أخلاقنا، ونغسل من قلوبنا أدران الحسد والأنانية والشهوة، نصبح على زعمهم سعداء مرفهين، ونعيد مجد الأجداد”.
ويعتبر الكاتب أن هذا التبسيط للإصلاح الاجتماعي مُخلّ بمنطق الإصلاح والوعظ، لأن سلوك الإنسان لا ينتج عن طبيعته الذاتية، “فالإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة المحيطة به”، وكي يتم التحكم بهذه الطبيعة، يجب أولًا أن تُدرس.
إن العوامل النفسية التي اكتسبها الفرد من بيئته الاجتماعية وظروفها هي التي تحدد سلوك الفرد بالدرجة الأولى، وإذا نصح الواعظ الناس بتطبيق المثل العليا، لن يفلحوا بها، وفق ما يراه الوردي، إلا إذا أُصلحت الظروف الاجتماعية الأساسية التي شكلت شخصية الفرد وسلوكه.
يفسر الكتاب المنشور عام 1954 في 272 صفحة، أسباب انتشار “الوعظ الشكلي” في المجتمع، فالأول يعود، بحسب الوردي، إلى عدم تكلفة هذا الوعظ من طاقة وجهد، إنما يحتاج لمجرد قدرات كلامية يقولها الواعظ ليشعر أنه قام بإنجاز عظيم، “والغريب أن الواعظين أنفسهم لا يتبعون النصائح التي ينادون بها”، ينصحون الناس ويعملون بعكس ما يقولون، و”نجدهم أحيانًا من أكثر الناس حسدًا وشهوة وأنانية”، وفقًا للكاتب.
أما السبب الأهم في انتشار هذا الوعظ فهو أنه في أغلب الأوقات يكون لمصلحة السلطة في دولة ما، فإن “الواعظين لا يهتمون لو كان المغنّي يغنّي للخليفة فتهتز على صوته بطون الجواري، ولكنهم يهتمون كل الاهتمام إذا رأوا صعلوكًا يغني لنفسه أو لأهل قريته”.
وإذا كانت السلطة فاسدة، وتنتج ظروفًا معيشية فاسدة بطبيعة الحال، يوجه الواعظون الناس إلى أن أخطاءهم الفردية هي السبب بما يحصل لهم من أزمات، ليدفع المجتمع بذلك فاتورة تكاليف فساد السلطة.
كما “صار الوعظ مهنة تدر على صاحبها الأموال، وتمنحه مركزًا اجتماعيًا لا بأس به، وأخذ يحترف مهنة الوعظ كل من فشل في الحصول على مهنة أخرى”.
يجعل الوعظ الناس شديدين في نقد غيرهم، بحسب كتاب الوردي، فالمقاييس الأخلاقية التي يسمعونها من أفواه الوعاظ عالية جدًا، وفق ما يعتقده الوردي، ولا يستطيع الناس تطبيق تلك المقاييس على أنفسهم فيلجؤون إلى تطبيقها على غيرهم، وهكذا يكون نقدهم شديدًا.
وعملية صلاح المجتمع لا تكون عند الوردي بالردع أو بالنصح، بل بتغيير ظروف البيئة المحيطة بالفرد من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي التي تحدد أخلاق الإنسان وليس العكس.
علي الوردي، هو عالم اجتماع ومؤرخ عراقي، من مواليد بغداد عام 1913، اشتهر بتبنيه الفكر الحديث في وقته، لتحليل الواقع الاجتماعي العراقي والعربي، وهو من رواد العلمانية في العراق.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :