قبل 21 عامًا شهدت سوريا “أخطر وأكبر” قضية فساد في ذلك الوقت، إذ حملت ما تعرف بـ”قضية عقود الخليوي” أضرارًا اقتصادية وتنموية واجتماعية، نسجت خيوطها الأولى عام 1999، حتى توقيع عقدين مجحفين يلحقان أضرارًا بالغة بالمصلحة العامة في 12 من شباط 2001.
ناشد قبل أيام قليلة رجل الأعمال السوري، رامي مخلوف، رئيس النظام السوري، بشار الأسد، بمساعدته في حل قضية الاتهامات التي وجهت لشركة الاتصالات “سيريتيل” المملوكة للمخلوف ودعمه في عدم انهيارها.
وجاء ذلك في تسجيل مصوّر نشرته صفحة “رامي مخلوف” عبر “فيس بوك” يوم الجمعة، 1 من أيار، في أول ظهور إعلامي له منذ سنوات، عندما أعلن تنازله عن أملاكه لمصلحة المؤسسات الخيرية.
اقرأ المزيد: أول ظهور له منذ سنوات.. رامي مخلوف يستجدي الأسد
وفي الوقت الذي يتداول فيه المستخدمون عبر وسائل التواصل الاجتماعي هذا التسجيل المصور، كشفت جمانة سيف عن دراسة كتبها والدها المعارض السوري رياض سيف، حول كل ما يتعلق بعقود الهاتف الخليوي في سوريا.
قدم سيف في عام 2001 دراسة تفصيلية من وجهة نظره مستعينًا بما لديه من وثائق حينها وبمساعدة من المختصين في مجال الاتصالات والتنمية والمهتمين بالشأن العام.
قبل إغلاق القضية
بعد خمسة أيام من توقيع عقود صفقة الخليوي، في 17 من شباط 2001، وجه النائب سوري في مجلس الشعب حينها مأمون الحمصي أسئلة حول الصفقة، طالبًا حضور الحكومة للرد عليه.
وفي الجلسة النيابية المنعقدة في 26 من آذار، حضرت الحكومة وقدم وزير المواصلات آنذاك، محمد رضوان مارتيني، تقريرًا أكد فيه نزاهة العقود وقانونيتها وفوائدها الكبيرة للبلد، ليعلن رئيس مجلس الشعب بذلك إقفال باب النقاش وطي الملف.
ضياع 200 مليار ليرة
قاطع رياض سيف وقتها رئيس المجلس، مطالبًا إياه بعدم إغلاق الملف، قائلًا إن تلك الصفقة ستضيع على الشعب السوري 200 مليار ليرة سورية، مستندًا على دراسة تفصيلية لإثبات ذلك، مما اضطر رئيس المجلس لإغلاق مناقشة القضية.
تحذيرات بالسجن
تسرد جمانة سيف كيف نصح وزير المواصلات مارتيني المعارض السوري رياض سيف بالابتعاد عن القضية لخطورتها، حين زاره سيف ليطلب المساعدة في الحصول على وثائق تكشف عن الضرر الناتج عن تلك الصفقة.
وكانت نصيحة مارتيني لسيف حينها، التحذير بوجود نية لسجنه هو والدكتور المعارض عارف دليلة، إذا أصرا على متابعة ملف “صفقة الخليوي”.
الخسارة للدولة والمربح للشركات
حصلت عنب بلدي على نسخة من تلك الدراسة التي كتبت في 96 صفحة، وأوضحت الجدوى الاقتصادية لصفقة الخليوي وأهمية تبيانها من التعتيم الكامل.
وتؤكد دراسات الجدوى الاقتصادية للعقود بعد مقارنتها بالخيار الأمثل لاستثمار قطاع الاتصالات في سوريا، أن ما يضيع على الدولة خلال الـ15 عامًا المقبلة يقدر بـ400 مليار ليرة سورية، وفقًا لصفحات الدراسة.
وبينما تخسر المصلحة العامة هذه الأرقام الكبيرة، تحقق الشركتان المتعاقدتان “سيريتيل” و”سبيستل (إم تي إن لاحقًا)” أرباحًا احتكارية وغير عادلة تتراوح بين 200 إلى 300 مليار ليرة سورية.
اقرأ أيضًا: مصادر تتحدث عن اعتقالات تطال مديرين في شركة “سيريتل”
ويوضح سيف في دراسته ما تعنيه تلك الأرقام، فإن مبلغ 200 مليار ليرة يعادل مجموع كتلة الرواتب والأجور والتعويضات لجميع العاملين في وزارات العدل والتعليم العالي والتربية والصحة والشؤون الاجتماعية العدل، في ذلك الوقت، والذين يعيلون ما يقارب المليون مواطن سوري على مدى 15 سنة كاملة.
200 مليار ليرة تساوي مجموع رواتب 220 ألف موظف عصامي في الدولة بخمسة آلاف ليرة شهريًا على مدى 15 سنة كاملة، وفقًا للدراسة.
التهرب الضريبي في “جزر العذراء”
وقعت صفقة الخليوي هذه مع شركتين أجنبيتين محدوتي المسؤولية، رأسمال كل منهما 50 ألف دولار أمريكي فقط، مسجلتين في “جزر العذراء البريطانية” وقد سجلت إحداهما قبل أربعة أيام من تاريخ إعلان مناقصة الخليوي مع إغفال اسم المسؤول والمدير العام لهما.
تعد “جزر العذراء” هذه “جنة الضرائب”، وفق الدراسة، حيث لا تدفع الشركات المسجلة فيها إلا الرسم السنوي مقابل عنوان الشركة وصندوق البريد، ولذلك فهي تستقطب الشركات الهاربة من الضرائب وشركات غسيل الأموال.
والشركتان المشغلتان (سيريتيل وسبيستل) كلاهما كانتا قيد التأسيس في ذلك الوقت، ولا تملكان أي خبرة في مجال الاتصالات، ولم تأخذا الصفة القانونية في وقت تاريخ كتابة الدراسة.
يملك رامي مخلوف شركتي “سيريتيل” و”إم تي إن” (سبيستل سابقًا) المشغلتان الوحيدتان لخدمة الاتصال الخليوي في سوريا، وهو الابن البكر لمحمد مخلوف، أخ زوجة الرئيس السابق، حافظ الأسد، والمقرب منه.
التعتيم على الصفقة
وفي اليوم الأول من عودة المجلس للانعقاد، في 15 من أيار 2001، طالب رياض سيف بتشكيل لجنة للتحقيق في موضوع “صفقة الخليوي”، وأيده في ذلك أكثرية أعضاء المجلس.
وقدم مذكرة من ستة صفحات تحت عنوان “لماذا التعتيم على صفقة الخليوي؟”، وزعها على كبار المسؤولين وعلى زملائه في مجلس الشعب، وطلب نشرها في جريدة “تشرين” الحكومية، لكن ذلك لم يتحقق.
وفي تاريخ 11 من حزيران من العام نفسه، حضر رئيس مجلس الوزراء للرد على سؤال سيف الخطي، مقدمًا اقتراحًا بإحالة الموضوع إلى لجان المجلس، وتم تكليف لجنتي القوانين المالية والخدمات بدراسة الموضوع.
قبل أربعة أيام من انتهاء الدورة التشريعية اجتمعت اللجنة المشتركة وحضر المدير العام للمؤسسة العامة للاتصالات مصطحبًا نسخة من الوثائق المتعلقة بالعقود، تحوي مئات الصفحات ومعظمها باللغة الإنجليزية، سلمها لرئيس اللجنة مؤكدًا اعتبارها وثائق سرية يحظر تداولها، وتحت إصرار أعضاء اللجنة على توزيع نسخ من الوثائق على أعضائها تمت الموافقة على ذلك.
حرص رئيس المجلس ووزير المواصلات حينها على إنجاز تقرير اللجنة قبل العطلة كان واضحًا بحسب منشور سيف، وكان من أهم ما أكده الوزير، هو أن التصديق النهائي للعقود لم يتم بعد، ونجحت اللجنة في تمديد المهلة الممنوحة لإنجاز عملها إلى الدورة التالية.
وحاولت في تلك الفترة وسائل الإعلام الرسمية تكذيب ما قدمه سيف من معلومات وأرقام، وقال “عندما طلبت من وسائل الإعلام نفسها نشر ردي على ما أوردته بهذا الشأن كان الجواب بالرفض دائمًا”.
إن منح شركات أجنبية امتياز إدارة واستثمار مرفق عام تملكه الدولة يتطلب إصدار قانون خاص حسب المادة 71 من الدستور السوري المعمول فيه بذلك الوقت.
إلا أن رغبة المستفيدين من العقود بإبرام الصفقة وسعة نفوذهم مكناهم من الالتفاف على الدستور، وإتمام الصفقة بسرية مطلقة، وفقًا لدراسة سيف.
حكومة الزعبي و”فضيحة B.O.T”
“ومما أثار الريبة أكثر هو الخوف الذي كان يسيطر على رئيس مجلس الوزراء، محمود الزعبي، في تلك الفترة من تمرير الصفقة”، وفق الدراسة.
إذ قدم مدير عام مؤسسة الاتصالات مذكرة لرئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 3 من شباط 2000 ترجح اختيار طريقة الـ”B.O.T” في التعاقد فيما يخص صفقة الخليوي، وهو ما لم يكن موافقًا عليه من الزعبي.
يلاحظ سيف في دراسته هيمنة قضية الخليوي على اهتمامات حكومة الزعبي في الأيام الأخيرة من عمره، والذي وافق على خيار الـ”B.O.T” في نفس يوم إقالة حكومته، وبقي رئيس مجلس الوزراء الجديد، محمد مصطفى ميرو، والوزراء ومؤسسة المواصلات مصرين على أن الزعبي هو من وافق على خيار الـ”B.O.T” قبل إقالته بساعات.
وكل الوثائق تشير إلى أن رئيس الوزراء الزعبي لم يعطِ موافقته على ذلك الخيار حتى صباح يوم استقالته.
اقرأ: آلية عمل نظام الـ”B.O.T” للتعاقد
يقول سيف في دراسته إن رفض الزعبي لخيار الـ”B.O.T” كان سببًا في إقالته، وقد كانت العداوة بين كل من محمود الزعبي وسليم ياسين (نائب رئيس الوزراء لشؤون الاقتصاد) مع محمد مخلوف معروفة للجميع، وكانا يشتكيان دائمًا من تغول محمد مخلوف على كل المشاريع الاقتصادية، وفقًا لسيف.
إن اختيار نظام الـ”B.O.T” كانت بمثابة “فضيحة”، حسب تعبير الدراسة، الذي أعطى المستفيد هدية ثمينة بتخفيض حصة الخزينة من العائدات من 40% إلى 30% في السنوات الثلاث الأولى من العقود، “لكي لا تتحمل الحكومة الجديدة تبعات هذا العقد المجحف”.
وقدرت المؤسسة العامة للاتصالات بتاريخ 7 من آذار 2000، وفقًا للدراسة ربح الشركتين قبل دفع الضريبة بـ 121.815 مليارًا عن مليون وسبعمئة ألف خط كحد أعلى، يحول منها 36% للخزينة كضرائب، ليصبح الربح الصافي للمستفيد 77 مليار ليرة فقط.
عدم صلاحية نظام الـ”B.O.T”
إن مبدأ “B.O.T” غير صالح للاستثمار في مجال الاتصالات لأسباب موضوعية، فالاتصالات وعالم التكنولوجيا بشكل عام سريع التطور وهناك الكثير من المتغيرات فيه بشكل دائم، وما يناسب هذا النظام من التعاقد هو المشاريع الثابتة وطويلة الأجل مثل بناء صوامع للحبوب أو محطات القطار أو البنى التحتية.
ويتم بناء هذه المشاريع واستثمارها لعدد من السنوات (10 إلى 20 سنة) من قبل الشركة المتعاقدة وتعود ملكياتها بعد انقضاء مدة العقد للدولة.
أن إصرار المؤسسة على اعتماد هذا المبدأ سهل إعفاء المستثمر من دفع 100 مليار ليرة سورية على الأقل، كدفعة مقدمة، وأتاح له استغلال كوادر المؤسسة وبنيتها التحتية بعيدًا عن أي آلية فاعلة للمراقبة.
مذكرة 7 من آذار 2000
أعدت هذه المذكرة في يوم استقالة حكومة الزعبي، وتبين هذه المذكرة التفصيلية الحرص الشديد من إدارة مؤسسة الاتصالات على تزيين خيار الـ”B.O.T”، إذ تحذر المذكرة من مغبة قيام المؤسسة بتشغيل الهاتف الخليوي والذي سوف ينعكس سلبًا على نوعية وجودة الخدمة وحجم العائدات المتوقعة حسب زعمها.
بينما تصف المؤسسة الـ”B.O.T” بأنه يدر على الخزينة أرباحًا طائلة دون الحاجة إلى استثمار أي أموال، ودون تعريض الدولة لأي مجازفة، وأنه يقدم للمواطنين خدمات أفضل، ويشجع على تحسين مناخ الاستثمار، مقابل نسبة أرباح قليلة يجنيها المتعاقد لقاء توظيفه لرأسمال كبير وما يدفعه من فوائد على رأس المال وما يتحمله من مخاطر في المشروع.
وقد تم التلاعب بالأرقام بما يخدم هدف المؤسسة المتمثل بإقناع الحكومة بضرورة تنازل المؤسسة عن تشغيل هذا المشروع لصالح صاحب العقود المستفيد، وفقًا للدراسة.
النتيجة.. سجن “عدرا”
ويعتقد المعارض رياض سيف أن توزيعه لآلاف النسخ في عام 2000 من تلك الدراسة، كان أحد أهم الأسباب الرئيسة في قرار السلطة السورية باعتقاله بعد فترة لا تتجاوز الشهر من فضح صفقة الخليوي.
حوكم رياض سيف وأودع سجن “عدرا”، على الرغم من كونه عضوًا في مجلس الشعب في ذلك الوقت.