نبيل محمد
عادة، كانت تحمل أفلام المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد هوية ذات خصوصية في السينما السورية، خصوصية لا تنبع فقط من البيئة التي سكنت فيها كاميرته ولم تُجِدْ الخروج منها، أي بيئة قرى الساحل السوري، بمكوناتها الطبيعية وأفرادها ومفرداتها، وإنما أيضًا من أسلوبيته الفنية في سرد الحكاية، والخط الرومانسي الدائم الوجود وصاحب البعد الأعمق في الحكايات الريفية، التي أجاد نقلها المخرج في عدة شرائط كانت في وقت من الأوقات ذات وقع إيجابي على المنظومة السياسية الحاكمة للإنتاج السينمائي في سوريا، ما أتاح إنتاج مجموعة منها، وما فتح الباب لعبد الحميد ليقدم عبر المؤسسة العامة للسينما ما يشاء، وما أعطاه فرصة لم تُمنح لكثيرين غيره من مخرجي السينما في سوريا.
يعود عبد الحميد في آخر أفلامه “عزف منفرد” 2019، ليواكب المرحلة، المرحلة التي أصبح عنوانها السينمائي السوري أفلام جود سعيد، والتي صاغ من خلالها سعيد الخطاب السياسي الحزبي البعثي الذي صقله النظام السوري عبر السنوات الأخيرة كاملًا من خلال الأفلام، لتكون أفلامه المكافئ السينمائي لرواية النظام عما يجري في سوريا، فتعاني ما تعانيه هذه الرواية من تناقضات، وسوء حبكة، وخطابية جافة، وبالتأكيد وقبل كل شيء رداءة في الإخراج. لذا فقد يكون من المناسب رؤية سينمائيين “عتاق” يواكبون اليوم، علَّ ما يقدمونه يختلف.
وبالفعل لا يمكن القول إن ما قدمه عبد الحميد، في فيلمه الأخير “عزف منفرد”، مطابق لمدرسة جود سعيد الرائجة، لكن باب المقارنة هنا لا يظلم أي مخرج بل يسهّل عليه التميز، كونه يحط من المعايير الفنية، فيبدو أي شريط منتج يحمل أي لمحة سينمائية، فيلمًا حقيقيًا ناجيًا من السطحية وعدم وجود موضوع متماسك.
في “عزف منفرد”، لا يأتي عبد الحميد بجديد، إنما يكرر ما خرجت به تجارب عالمية بمجموعة من الشرائط، بقصص لا حدود لها عن موسيقيين يُجبَرون على العمل التجاري، وعلى الابتعاد عن الصالات الاحترافية وخشبات الأوبرا وصالات العرض الراقية، ليكونوا مؤدين مرافقين لطاولات العشاء، يحركون خصور الجالسين حولها. لعل مجرد ذكر هذه القصة سيأتي بعدة شرائط إلى ذهن متابعي السينما في العالم. ومن هنا بالضبط انطلق عبد الحميد ليعرض قصة عازف “كونترباص” يعمل في مطعم، فتتبعه صديقته وحبيبته القديمة عازفة الكمان، التي تعمل سائقة سيارة أجرة اليوم، لتعزف معه في المطعم، ثم زوجته لتغني. كل ذلك كان متماشيًا مع القصة المفصلية وهي رعاية العازف لرجل مسن مريض نازح، دُمّرت ممتلكاته من قبل “المسلحين”.
يعالج الفيلم القضية بسطحية مسيطرة على كل تفاصيل القصة، سطحية يسهم فيها أداء الممثلين، فيبدو وجود بطل الفيلم فادي صبيح خلف آلة “الكونترباص” كوميديًا بشكل ما، ويبدو أن الوقت لم يتح أبدًا لتدريبه على أخذ موقع عازف “الكونترباص” والعلاقة مع الآلة، ارتباك واضح لوقوفه خلفها، وبالتأكيد سوء إدارة فنية تظهر الموسيقى مناقضة لحركات أيدي العازفين سواء “الكونترباص” أو الرق أو الكمان، بشكل واضح لأي متابع. فمشهد العزف الجماعي على الرغم من أنه أكثر المشاهد حركية في الفيلم الكئيب، تركيبه غير مضبوط، وكأنه “بروفا” أولية لمشهد سيحتاج الخروج منه بصورة لائقة إلى إعادته عشرات المرات.
لا تقف المشكلات الفنية هنا، إنما سنصادف أسئلة أخرى لا يجيب عنها الفيلم، أسئلة واقعية مصدرها الواقعية ذاتها التي يتخذها الفيلم لأحداثه، كقدرة الرجل المسن على العودة بـ”بقجة” مليئة بالذهب والنقود من مواقع سيطرة “المسلحين” دون أن يعترضه أحد، بل قدرته على إيجاد ثرواته في منزله المدمّر، والحاجز الملائكي في تعامله مع الداخلين والخارجين من مناطق “المسلحين”.
كلما خرجت كاميرا عبد اللطيف عبد الحميد من القرى التي لازمتها وأنتجت فيها الجيد والرديء، جاءت بمنتج أول إشكاليته الضعف وتشتت الهوية. فكيف إن خرجت هذه الكاميرا إلى وسط مدني مدمَّر ومحاصر بآلة عسكرية، على كل من يحرّك كاميرا فيه واجب تقديس هذه الآلة قبل البدء بتصوير أي مشهد.