عنب بلدي – علي درويش
ترسم إيران سياسة ضبابية بالأدوار التي تلعبها في ملف إدلب شمال غربي سوريا، ففي وقت غابت فيه عن اتفاقات رسمت شكل خريطة السيطرة العسكرية بالمحافظة، تعد ميليشيات تتحرك بدعم منها رأس حربة في كل هجوم يستهدف مناطق المعارضة إلى جانب قوات النظام السوري.
غابت إيران عن أهم اتفاقين رسما خريطة السيطرة في شمال غربي سوريا، الأول كان في مدينة سوتشي الروسية، في أيلول 2018، بين روسيا وتركيا، ونص على بنود أبرزها وقف إطلاق النار وتسيير دوريات وإنشاء نقاط مراقبة ومنطقة منزوعة السلاح بين النظام والمعارضة، والثاني اتفاق موسكو الموقّع بين روسيا وتركيا، في 5 من آذار الماضي، بغياب تام للساسة الإيرانيين.
ثلاثة أدوار لإيران شمال غربي سوريا
الباحث في مركز “عمران للدراسات” معن طلاع أوضح، لعنب بلدي، أن تطورات منطقة “خفض التصعيد” الرابعة وما تبعها من اتفاقات أخرى أسهمت في تنامي النقاشات الثنائية الروسية- التركية وتضاؤل الفاعلية الإيرانية، وأظهرت أن “مثلث أستانة” (روسيا وتركيا وإيران) بقي كإطار تسيده الروس والأتراك في صياغة التفاهمات حيال إدلب.
وصارت محادثات روسيا وتركيا تشهد العديد من المفاوضات العسكرية والأمنية الدقيقة بين البلدين، ما أسهم في تغير التموضع الإيراني في مسار المحادثات.
وفي مقابل ذلك، اتجهت طهران إلى إعادة تعريف انخراطها النوعي بالمشهد العسكري في شمال غربي سوريا، ويمكن تلخيص تحركها بثلاثة أدوار.
أولها التأثير في رسم الأحداث الميدانية، عبر وجودها النوعي وقدرتها على الاستفادة من تطويع الاتفاقات بما لا يتعارض مع غاياتها، إذ تنتشر في محيط كفرنبل ما يعرف بقوات “313”، وهي قوات ممولة ومدعومة من قبل إيران، وتضم مقاتلين سوريين وأجانب.
وفي محيط سراقب، تنتشر “قوات الرضوان” التابعة لـ”حزب الله” اللبناني، إضافة لانتشار قوات من الميليشيات العراقية الموالية لإيران، كما عزّزت الميليشيات الإيرانية نقاط تمركزها في محيط جبل شحشبو شمال غربي حماة بواسطة ميليشيات “فوج النبي الأكرم”، الموالية لإيران.
أما الدور الثاني، فهو الضغط على النظام ودفعه للقيام بخروقات أو الاستعداد للاستفادة من أي خرق ممكن (مستفيدة من قوة ميليشياتها النوعية وتشكيلها عاملًا ضاغطًا)، ويلمس ذلك من مؤشرات استقدام تعزيزات للمنطقة خلال الأسابيع الماضية، خاصة على جبهة جورين بريف حماة الشمالي الغربي، وسط تخوف من عودة المعارك، كما زاد تعزيز الميليشيات الإيرانية في محاور ريف حلب الغربي، لكنها ما زالت دفاعية في المرحلة الحالية.
وهو ما حصل فعلًا في 16 من نيسان الحالي، حين أعلن “جيش النصر” المنضوي ضمن “الجبهة الوطنية للتحرير” مقتل عنصرين بطائرات، قال إنها إيرانية مسيّرة، بريف حماة الغربي.
وأكد المتحدث باسم “الجبهة الوطنية للتحرير”، النقيب ناجي مصطفى، أن طائرات مسيّرة من قبل الميليشيات الإيرانية استهدفت مقاتلين من الفصائل في سهل الغاب.
وردت الفصائل على الخروقات من قبل قوات النظام وإيران، بحسب ما أكده مصطفى لعنب بلدي، مشيرًا إلى استعداد الفصائل لكل السيناريوهات المقبلة، وخاصة بعد رصد حشود عسكرية في جورين من قوات النظام.
كما استهدفت طائرة أخرى سيارة لـ“الفرقة الساحلية الأولى”، ما أدى إلى مقتل شخص كان بداخلها، في حين تمكنت الفصائل من إسقاط إحدى الطائرتين في ريف حماة.
وينحصر الدور الثالث لطهران، بحسب الباحث معن طلاع، بإرسال عدة رسائل وتصريحات تفيد بتموضعها النوعي، وبالتالي ضرورة مراعاة مصالحها طمعًا في تكثيف العوامل الداعمة لعودة زخمها في مسار “أستانة”، والتأكيد أن سياستها لم تتضرر بمقتل مهندسها قاسم سليماني، في بداية كانون الثاني الماضي.
شمال غربي سوريا سيرسم “الصفقة السياسية”
الباحث معن طلاع أكد أن إيران تستثمر كل طاقاتها في تطويع المشهد السوري لمصلحة سياساتها الإقليمية، ومن مصلحتها أن تكون إحدى القوى المهمة والمؤثرة في المشهد العام لشمال غربي سوريا، باعتبارها آخر مناطق الصراع بين النظام والمعارضة، وبالتالي فإن الشكل الذي ستستقر به المنطقة سيسهم في بلورة “الصفقة السياسية”.
ما يقلق طهران في هذه المرحلة هو احتمالية تحول الاتفاقات التركية- الروسية إلى قواعد رئيسة للاتفاق النهائي في المنطقة، بما يتعارض مع مصالحها ومكاسبها الاستراتيجية.
كما تطمح إيران باستثمار حركة المرور والعبور على الطرقات الدولية، وبالتالي الاستفادة منها لتطويعها في تدعيم قواعدها وبرامجها في سوريا.
وكانت قوات المعارضة تسيطر على الطريقين الدوليين دمشق- حلب (M5) وحلب- اللاذقية (M4)، اللذين يشكلان شريان النقل البري داخل الأراضي السورية، بين سوريا ودول الجوار.
وتمكنت قوات النظام السوري خلال الحملات العسكرية، التي بدأت مطلع عام 2019 وتجمدت مع اتفاق آذار الماضي، من السيطرة على طريق دمشق- حلب (M5) بالكامل، بينما نص اتفاق آذار على تسيير دوريات مشتركة روسية- تركية على طريق حلب- اللاذقية (M4)، وهو ما يقابَل برفض في إدلب لمنع تسيير الدوريات حتى اليوم.
وتحاول إيران استباق أي محاولة لتشكيل منصة ولو غير مباشرة، تضم كلًا من روسيا وتركيا وأمريكا، لأنها إذا تكرست ستكون طهران أول من يدفع الثمن فيها، من ناحية تراجع تأثيرها ونفوذها وتضييق الخناق على وجودها العسكري في الشمال، وبالتالي سقوط حلم الوصول إلى المياه الدافئة عبر منفذ استراتيجي على البحر المتوسط الذي تشير المعطيات إلى أنه يواجه اعتراض جميع اللاعبين الإقليميين، بحسب طلاع.
غياب عن الاتفاقات المصيرية وحضور على الأرض
توصل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في 17 أيلول 2018، لاتفاق على إقامة منطقة منزوعة السلاح بين مناطق سيطرة المعارضة ومناطق سيطرة النظام في منطقة “خفض التصعيد” بإدلب، ونص الاتفاق على إقامة منطقة خالية من السلاح بين مناطق سيطرة الطرفين، وتسيير دوريات مشتركة بالتنسيق على حدود المنطقة المحددة التي يصل عرضها إلى 20 كيلومترًا، كما قضى الاتفاق بمنع “الاستفزازات” بين الأطراف المعنية و”انتهاك الاتفاق المبرم”.
الاتفاق جاء بعد حشد عسكري وإعلامي للنظام السوري على أطراف محافظة إدلب، بهدف التقدم فيها، بالوقت الذي انطلقت فيه تحذيرات أممية ودولية من كارثة إنسانية قد تصيب المنطقة في حال شنت روسيا والنظام السوري عملية عسكرية على المنطقة.
وتكرر ذلك في اتفاق “التهدئة” بين المسؤولين الروس والأتراك، في 12 من كانون الثاني الماضي، وفي اتفاق موسكو الأخير في آذار الماضي، وبعد كل اتفاق يخرج الإيرانيون بتصريحات مؤيدة له.
ورغم تجاهل، أو نبذ، الإيرانيين من الاتفاقات السياسية، لم يتخلوا عن مواقعهم بل عملوا على استقدام التعزيزات العسكرية إلى خطوط التماس في أرياف إدلب وحلب، خاصة بعد قرار النظام إنهاء الاحتفاظ واستدعاء ضباط الاحتياط المحتفظ بهم والملتحقين من الاحتياط المدني الأخير، بحسب ما أفاد به مراسل عنب بلدي نقلًا عن مصادر عسكرية.
وقال القيادي في “الجيش الحر” النقيب عبد الفتاح عبد الرزاق، في حديث سابق لعنب بلدي، إن إيران تحشد بعض المرتزقة من ميليشياتها في الأسابيع الأخيرة حول إدلب، لكنه اعتبر أن القرار يبقى بيد روسيا، لأن معركة دون دعم سلاح الجو الروسي لن تنجح.
ورجح مدير وحدة المعلومات في مركز “عمران للدراسات”، نوار شعبان، في حديث سابق لعنب بلدي، حدوث مناوشات في محيط منطقة الطريق الدولي حلب- اللاذقية (M4)، أو محاولات برية خجولة، لكن لن ترقى لعملية عسكرية ضخمة، وذلك بسبب انتشار جائحة فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، وما ألحقه من أثر على الصعيد العالمي.
ويعد استهداف ثلاث طائرات مسيّرة مناطق سيطرة المعارضة، في 16 من نيسان الحالي، أبرز خرق للاتفاق الروسي- التركي الأخير، بحسب ما أعلنه فصيل “جيش النصر” الذي استهدفته إحدى الطائرات، إلى جانب استهداف أخرى لـ”الفرقة الساحلية الأولى”، وأدت إلى مقتل عنصرين من “جيش النصر”، بينما أسقطت الفصائل إحدى الطائرات.
وكانت الخروقات السابقة عبارة عن رمايات مدفعية أو صاروخية على مناطق سيطرة المعارضة، ولم يكن لها الأثر الكبير بسبب سقوطها في القرى والبلدات الخالية من الأهالي نتيجة المعارك الأخيرة.