أسامة آغي
جائحة “كورونا” لن تدع الأمور السياسية والاقتصادية في العالم كما كانت قبل تفشيها، وهذا ليس تخيلًا أو رغبة، بل هو واقع يتشكل مع استمرار فعل الجائحة على المستوى العالمي، وتحديدًا على مستوى الدول الأكثر تقدمًا في المجال الاقتصادي.
“كورونا” عطّلت النشاط الاقتصادي في أغلب فروعه الرئيسة، وتحديدًا في قطاع الصناعة والنقل والسياحة والخدمات وغيرها، حيث لجأت حكومات الدول، التي اجتاحها وباء “كورونا”، إلى تعطيل العمل والمدارس والأسواق عمومًا، وفرضت الحكومات إجراءات منع تجول جزئي أو كلي في عديد من البلدان في أوربا أو غيرها من الدول.
تعطيل النشاط الاقتصادي الدولي سيلعب بالضرورة دورًا في تخفيض معدل النمو العالمي، الذي يُتوقع هبوطه إلى مستوى 2.3% بعدما كان 2.6%، وهذا يعني أن فرص العمل ستنكمش، وستزداد نسب البطالة، وبالتالي، ستزداد مدفوعات التأمين الاجتماعي، والمساعدة الاجتماعية، ما يخلق أزمات لم يُخطط لمواجهتها من قبل.
التعطيل الاقتصادي، أرادت حكومة المملكة العربية السعودية مواجهته من خلال منظمة “أوبك” المصدرة للنفط، عبر إجراء تخفيض كميات الإنتاج للدول الأعضاء إضافة إلى روسيا، لكن المفاوضات أُجّلت، ورفض الروس الرؤية السعودية، وردّوا بأنهم سيزيدون إنتاجهم لمواجهة انخفاض أسعار البترول، هذا الأمر قال عنه البروفيسور أندرو جريما لوك: “من المحتمل أن تكون لحرب أسعار النفط الحالية عواقب بعيدة المدى على الاقتصادات العالمية، بما في ذلك على الولايات المتحدة”.
إن فعل “كورونا” لن يكون محصورًا في الجانب الصحي والطبي فحسب، وما الحرب الاقتصادية في مجال أسعار النفط بين روسيا والسعودية إلا أحد نتائج “كورونا”، فالروس سيتضررون من تهاوي أسعار النفط العالمية، التي انخفضت إلى أقل من 20 دولارًا للبرميل الواحد، وهذا يرتب خسائر كبيرة على الروس تصل إلى مقدار 36 مليار دولار في العام الواحد.
قلة عائدات النفط بالنسبة لروسيا لن تغيّر من ذهابهم إلى زيادة منتوجهم المعد للتصدير، فالسوق العالمية المتعثرة بالإنتاج وحركة الطلب على النفط، لن تستوعب زيادات الإنتاج الروسي أو السعودي، وهذا ما يجعل القدرة الاقتصادية الروسية في حالة عجز وتراجع عن تنفيذ مشاريع استثمارية، أو تغطية نفقات حربها في سوريا.
الروس لن يتجاهلوا هذه الحقيقة الواقعية، وليست لديهم بدائل ملموسة ومتوفرة، ولهذا سيُخضعون كل خططهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية للواقع الجديد لقدراتهم الاقتصادية.
هذا الأمر سيَلحق خطط روسيا في سوريا، فتكلفة الدفاع عن النظام السوري في ظل “كورونا”، هي غيرها تكلفة الدفاع عنه قبل “كورونا”، أي إن الروس ونتيجة لأثر جائحة الوباء، لن يتمكنوا من تغطية تكاليف حربهم في سوريا، وبالتالي سيتعاملون مع ملف الصراع السوري على قاعدة التوازنات الاقتصادية والسياسية الجديدة، التي ستكون عليها الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في هذا الصراع.
ويمكن ملاحظة ذلك من موقع علاقة “أوبك” مع الروس، واحتمال انتقال فاعلية هذه العلاقة إلى مربع جديد، هو مربع “أوبك” إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أي إن “أوبك” ستعيد توازنها على مستوى التسعير والإنتاج على قاعدة جديدة، بعد انتهاء أزمة جائحة فيروس “كورونا”.
الروس لن يتمكنوا من تغطية تكاليف حرب جديدة في سوريا، لا سيما أن ظروفهم الاقتصادية بدأت تتأثر بالأزمة العالمية، ولن يتمكن الروس أيضًا من التصدي لأوضاع جديدة، سيُحدثها تطبيق قانون “سيزر” الأمريكي بحق النظام السوري، والمتعاملين معه اقتصاديًا.
هذا سيرتب في المدى القريب ارتدادات في بنية السياسة الروسية في سوريا، منها إبقاء درجة العلاقة مع تركيا على مستوى التعاون الاقتصادي والسياسي في أحسن مستوياتها، وهذا يشكل تعويضًا معتدلًا عن خسائر، قد تُضطر روسيا لتقديمها، فيما لو بقيت تدافع عن مفهومها بإعادة إنتاج نظام استهلك نفسه في حرب ضد شعبه، وارتكب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، موثقة دوليًا.
إن ارتدادات أزمة “كورونا” على روسيا بالدرجة الأولى، ستُجبرها على إعادة برمجة مصالحها في هذا البلد، بما يتماشى مع نتائج اقتصادية وسياسية، ستظهر إثر انكفاء الجائحة.
ولعل إيران حليف روسيا في الصراع ضد فصائل الثورة السورية وحاضنتها الشعبية، هي الأخرى لن تتمكن من الثبات في الساحة، بسبب عوامل كثيرة، أهمها تغيرات ميزان القوى بصورة عامة لغير مصلحتها.
هذه الرؤية، وهي ما يحدث على الأرض بالنسبة للروس، حيث وضعت مشروعهم حيال سوريا وأهدافهم من الانخراط في مجريات صراعها في موقع التراجع، إذ إنهم لن يتمكنوا بعد اليوم من تثبيت حال الصراع عند عتبته الحالية، لا سيما بعد انحسار جائحة “كورونا”، فتركيا لا تزال تريد المحافظة على وضع منطقة “خفض التصعيد” الرابعة، وأذرع الميليشيات ستخضع هي الأخرى لمتغيرات ميزان القوى الذي لا يجري لمصلحتها.
لقد انعطف الصراع السوري لغير مصلحة النظام وحلفه الروسي- الإيراني بزاوية حادة، وهذا معناه أن بوابة الحل السياسي سقطت في أرض أستانة وسوتشي، وستبدأ من جديد في أرض جنيف.
الروس يعيدون الحسابات بمجملها، الداخلية والخارجية، بسبب جائحة “كورونا” وما ستخلفه من أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية على بلادهم، وعلى علاقاتهم ونفوذهم الدولي.
نحن على أعتاب تغيرات جوهرية في بنية السياسة الروسية، وغير الروسية، وهذا يتطلب من كل الفرقاء المنخرطين في الصراع السوري إعادة إنتاج رؤيتهم لجوهر هذه السياسة، والمربعات الجديدة التي ستحتلها بعد “كورونا”.
الروس، الذين ستشهد سياستهم آثار ارتداد أزمة “كورونا”، يُدركون في الآن ذاته أن جسورًا جديدة ستُفتح، ولم يكن من الممكن العبور عليها من قبل، بينهم وبين أطراف الصراع الأخرى، فهل تعي أطراف الصراع المحلية والإقليمية هذا الوضع الجديد؟ وهل تعي ميزان قواه المتغير لغير مصلحة النظام؟ أم أنها لا تزال تفكر بأسلوب لا يلحظ نتائج “كورونا” وارتداداتها؟
بقي أن نقول، إن ما بذله مهندس السياسة الروسية سيرجي لافروف، طوال تسع سنوات، من محاولة تثبيت الاستراتيجية الروسية في سوريا، وفي المنطقة، أطاحت به جائحة الفيروس التاجي خلال أسابيع قليلة.