“قصتي مسلسل يُكتب، سأرويها للفائدة لا لذرف الدموع.. لا أشعر بالسخط.. راضية بقسمة الله”.
نور، شابة عشرينية من مدينة دوما خلقت معوّقة، لا تستطيع المشي بدون مساعدة الآخرين، تركت المدرسة في الصف الثاني، لأن مكانها ينبغي أن يكون في البيت لا المدرسة، على حد وصفها.
تروي نور قصتها، “خصصت لي أمي معلمة لتحفيظ القرآن فتعلمته حاضرًا عندما أتممت الحادية عشرة من عمري وكان ذلك آخر يوم لي خارج المنزل، الذي بقيت حبيسته قرابة 23 عامًا أحاول حماية نفسي من نظرات الشفقة والرحمة من الناس”.
مشغل يصنع “الأمل”
على أطراف مدينة دوما في الغوطة الشرقية، حيث لا شيء يوحي بالحياة، يقبع مبنى ينبض بالحركة والحيوية يضم عددًا من ذوي الاحتياجات الخاصة من الإناث، يعملن بجد ونشاط وينتجن مصنوعات يدوية من الألبسة واللوحات الفنية، متحديات إعاقتهن.
“صانعات الأمل” هو اسم المشغل الذي يحتضن نور وصديقاتها، ويتبع لمركز التأهيل النفسي في مؤسسة “بصمة أمل“.
“ساعدني الإنترنت في الخروج من عزلتي بعد استشهاد أمي وأختي برصاص حاجز طيار للأسد، فأصبح لدي عالمي الخاص، وأصدقاء مثلي من بلدان عربية، يحترمون ذوي الاحتياجات الخاصة”، تقول نور، مضيفةً “أقنعتني صديقاتي بجلب كرسي متحرك، وها أنا أجلس عليه الآن”.
التحقت نور بالمركز، وتعمل حاليًا في قسم الشك والرسم داخل مشغل “صانعات الأمل”، الاسم الجديد للمركز، والذي أصبح منبرًا مفتوحًا لها للتعبير عن أفكارها من خلال الخياطة والرسم، فتصمم أزياء العرائس، وتدرب النساء غير المعوقات، “تغيرت نظرة البعض لي، ولكن ليس الكل؛ ليست غايتي الرسم بقدر ما أطمح إلى إيصال رسالتي للعالم الخارجي”.
ناريمان، مشرفة في المؤسسة وهي مصابة بالتقزم، تحدثت إلى عنب بلدي حول طبيعة عملها في المشغل، متمنيةً أن تُعامل كشخص عادي وألا تؤثر إعاقتها على تقبل الناس لها:
الإعاقة في العقول وليس الأجساد
أم محمد، مديرة مؤسسة “بصمة أمل”، تقول إن المؤسسة بدأت عملها في الشهر الثالث من عام 2013، أي بعد تحرير مدينة دوما مباشرة، واختصت في عدة مجالات، أحدها مركز التأهيل النفسي، ويضم قسمًا إداريًا وآخر للشك وثالث للخياطة، ويحتضن 6 حالات يعملن في الوقت الحالي، هي حالة تقزم، وحالة شلل نصفي، بالإضافة إلى حالتي ضمور عضلي وحالتين من فئة الصم والبكم، وتتولى 4 مساعدات تدريبهن وتأمين ما يلزمهن.
وثّق المركز قرابة 900 حالة منذ بداية عمله، شملت المكفوفين وحالات الشلل النصفي والدماغي والصم والبكم بالإضافة إلى متلازمة داون (المنغولية)، والتوحّد، وحالات البتر الناتجة عن الحرب، وتقول المديرة إن تأثير الوضع الحالي في ظل القصف والدمار والحصار كان إيجابيًا بشكل كبير، إذ استطاعت العاملات إبراز قدراتهن من خلال الأعمال التي ينجزنها يوميًا وإثباتهن أنهن قادرات على العطاء حتى في أسوء حالاتهن.
تتحدث أم محمد إلى عنب بلدي حول تهميش هذه الفئة وقلة اهتمام المنظمات العاملة في المدينة بها، واستثنائها بشكل مستمر من الدعم والرعاية:
“حظيت بمن يهتم بي ولكن غيري لم يجد”
تشير مديرة المركز إلى أن “بصمة أمل” احتضن العديد من الحالات، إحداها شابة من فئة الصم والبكم حاولت الانتحار في ظل رفض المحيط لها وعدم تقبّل حالتها من أقرب الناس إليها، “جلبت إحدى الأمهات ابنتها إلى المركز لتُبعدها عن الجو الذي تعيش فيه وعملت في قسم الشك والرسم وتعلمت من العاملات فيه لنتفاجأ بما تعلمته خلال وقت قصير”.
شابة أخرى اسمها منال، تعاني من ضمور عضلي، توقف علاجها الفيزيائي بسبب قلة الاهتمام، وبدأ المرض يتطور في ظل نقص الأدوية والغذاء المناسب، تقول “بدأت إعاقتي منذ الطفولة ولم يكن المجتمع يعترف بنا فاضطررت للانعزال بعيدًا وحُرمت من التعليم وتراجعت حالتي”، مضيفةً “مصير هذه الفئة هو الضياع والجهل، أنا وجدت حرفة يدوية انخرط فيها ضمن المجتمع ولكن غيري لم يجد”.
وتتحدث منال إلى عنب بلدي عن معاناة ذوي الاحيتاجات الخاصة ضمن المجتمع الذي رفضهم، بالإضافة إلى المشاكل التي تعاني منها هذه الفئة في ظل نقص الاهتمام والرعاية:
تنتج العاملات في المشغل مصنوعات يدوية مختلفة، منها ألبسة الأطفال، التي يبيعونها بأسعار رخيصة رغم إنتاجهم المحدود. أم حمزة إحدى زبائن المركز، تقول إنه يقدم منتجات جيدة وبأسعار مناسبة تخفف وطأة الغلاء، “يبيع المركز منتجاته بأسعار رخيصة، ما يمكنني من شراء ثياب لأولادي وخاصة مع قدوم العيد”.
وتشير أم حمزة إلى أن زيارتها والعديد من النساء الأخريات للمركز منحتهن فرصة التعرف على هذه الفئة، وتضيف “أمّن المركز فرصة عمل لهذه الفئة المنسية التي لم تلق دعمًا من المنظمات العاملة في المدينة، ما جعلنا نتعرف عليهن عن قرب بعد أن كنا نستهين بهن”.
دعم هذه الفئة ضروري لتنمية مهاراتهم
هبة، ناشطة في مجال الدعم النفسي، تحدثت عن تجربة أختها ميس ذات السنوات العشر، والتي تعاني من متلازمة داون، “لم يكن في دوما مراكز لمثل هذه الحالات قبل الثورة، ولم نستطع تسجيلها في مراكز دمشق لأنها كانت صغيرة في العمر، وبعد تحرير الغوطة سمعنا بمؤسسة بصمة أمل التي افتتحت قسمًا تعليميًا عمل فريقه بشكل جيد على الرغم من أنه لم يكن مختصًا”.
وساعد الفريق التعليمي الأطفال في مسك القلم والكتابة والرسم واللعب بالمكعبات، وكان المركز الوحيد حينها الذي اختص بهذه الفئة، بحسب هبة، “إجمالًا كان القسم التعليمي بسيطًا وغير قائمٍ على أسس علمية، إلا أن العديد من الأشخاص عانوا بعد توقف الدعم المادي له وإغلاقه”.
ويعتبر التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة أمرًا حساسًا وليس بالسهل، إذ يحتاج إلى طاقة مضاعفة وأسلوب دقيق في التواصل. عنب بلدي التقت الدكتور أبو سليمان، مسؤول في مركز التأهيل الطبي والعلاج الفيزيائي في الغوطة الشرقية، وشرح أهمية العمل المهني بالنسبة لهذه الفئة وضرورته في تحسين قدراتهم، بالإضافة إلى العواقب الناتجة عن إهمالهم:
https://soundcloud.com/enab-baladi/sgit57hgqcuj
المعوّقون شريحة مهمشة في دوما
“بصمة أمل” ليس المشروع الأول في الغوطة لرعاية المعوقين، إذ يُقدم مشروع “لمسة عافية” خدمات عديدة لذوي الاحتياجات الخاصة في دوما، منها برنامج التأهيل النفسي والدعم الاجتماعي، الذي يعتبر جانبًا مهمًا في حياة المعوّق وأسرته، من خلال تواصل كادره الدائم معهم والعمل على تأهيلهم نفسيًا، وخاصة الجدد منهم، الذين تضرروا جراء الحرب في سوريا.
أبو نعمان، مسؤول التواصل والمدير المالي في المشروع، اعتبر أن المعوقين شريحة مهمشة وتكاد تكون منسية وتحتاج رعايتهم جهدًا مضاعفًا، بل “تكاد تكون الأشد حاجة في الغوطة لاجتماع المرض والفقر عندهم”.
وتحدّث أبو نعمان عن مشروع “لمسة عافية” وما يقدمه من رعاية للمعوقين في دوما، مشيرًا إلى أن عمله اقتصر على المدينة لأن كادره لا يستطيع تغطية القرى المحيطة بها لقلة الموارد وصعوبة الوضع:
https://soundcloud.com/enab-baladi/sets/bloqbppqhs79
غياب التنسيق وبوادر انفراج للحكومة
رئيس المجلس المحلي في مدينة دوما، أكرم طعمة، قال، إن المجلس يعمل حاليًا بالتعاون مع مؤسسة “لمسة عافية” التي ترعى المعوّقين، من خلال مشروع مشترك مع جمعية الصحة والجمعية الخيرية بدوما، وبالتنسيق مع المكتب الطبي”، مردفًا في حديثٍ إلى عنب بلدي، “سيشتري مكتب المحافظة في الغوطة الشرقية بدعم من البرنامج الإقليمي السوري كراس مدولبة للعجزة وعكازات أيضًا خلال الشهر القادم، إذ سيُؤمن قرابة 500 كرسي للعديد من المعوقين في المنطقة”.
وأشار طعمة إلى أن المجلس وظّف خلال العام الماضي أكثر من 5 معوقين جزئيًا ضمن مكاتبه، في ظل معاناة الأصحاء جسديًا من البطالة في الغوطة، إذ تصل نسبة البطالة بينهم إلى أكثر من 70 بالمئة، مردفًا أن المجلس يدرس بالتنسيق مع الجمعية الخيرية بعض المشاريع التي تشمل المعوقين والجرحى من خلال مشروع “إفطار صائم”، الذي بدأ مطلع شهر رمضان تحت عنوان “افطرهم وعد عليهم”.
وختم رئيس المجلس كلامه مؤكدًا أن “رعاية المعوقين من ضمن أولوياتنا”، مشيرًا إلى أن الخوض في الحديث حول مشاريع المجلس فيما يخص ذوي الاحتياجات الخاصة “ساهم بإدارة الدفة أكثر نحو دعم هذه الفئة”.
بدروها تحدثت الدكتورة سماح هدايا وزيرة الثقافة وشؤون الأسرة في الحكومة المؤقتة عن المشاريع التي ترعاها الوزارة فيما يخص المعوقين، “هناك برنامج خططنا له لدعم المعوقين جسديًا بالتمكين الحِرَفي المناسب لاحتياجاتهم على أن يكون جزءًا من مشروع بيوت الثقافة الذي لا يزال متوقفًا ولكن سيجري العمل عليه قريبًا في حال الموافقة على الدعم”، مشيرةً في حديثها لعنب بلدي إلى “تطور إيجابي” في مجال دعم المشروع، ولم تذكر أي تفاصيل أخرى.
وكانت هدايا أشارت في تصريح سابق لعنب بلدي إلى أن الوزارة بدأت بالتفكير برعاية مشاريع ضمن الغوطتين الشرقية والغربية، عازيَة عدم تواجدهم في تلك المناطق إلى “صعوبة الحركة فيها والوضع المالي السيء خلال فترة توليها للوزارة”.
ساهمت سنوات الحرب في سوريا، التي دخلت عامها الخامس، بزيادة أعداد المعوقين في ظل القصف والدمار، تاركةً ذوي الاحتياجات الخاصة يعانون من نقص الرعاية والاهتمام، وسط تقاعس المنظمات الإنسانية في تأمين ما يلزمهم، ما جعلهم فئة منسية.
تختم نور حديثها، “أريد أن تتغير نظرة العالم لنا وأن يعترفوا بحقوقنا، لا أريد سماع جملة (الله لا يبلينا)، وأتمنى متابعة تعليمي الذي حرمت منه”.