عنب بلدي – عبد الله الخطيب
تشهد محافظة إدلب شمالي سوريا صراعًا بين قادة جهاديين يرفضون إغلاق المساجد وإيقاف خطب الجمعة، وبين دعوات حكومية وطبية لإيقافها خوفًا من تفشي فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19).
ولم تسجل إدلب حتى اليوم إصابات بالفيروس، بحسب بيانات “الحكومة السورية المؤقتة” ومديرية الصحة اللتين تجريان الفحوصات للمشتبه بهم، لكن منظمة الصحة العالمية ومنظمات دولية حذرت من خطورة تفشي الفيروس في سوريا، لعدة أسباب، أبرزها تدهور القطاع الصحي مع سنوات الحرب، والكثافة السكانية في أماكن تفتقر للبنى التحتية، كالمخيمات المنتشرة في إدلب.
ودفع ذلك عنب بلدي للبحث في القضية ومناقشة دوافع الطرفين المؤيدين للإغلاق والمعارضين له، وتواصلت مع الجهات المعنية من “حكومة الإنقاذ”، وأطباء وعلماء دين، واستطلعت آراء المواطنين في القضية.
الصراع الدائر على إغلاق المساجد ومنع الجمعة
علّق القيادي في “هيئة تحرير الشام” (قبل استقالته وعودته مرة أخرى)، جمال زينية الملقب بـ”أبو مالك التلي”، على بيان من “حكومة الإنقاذ” التي تحظى بنفوذ في إدلب، صادر في 2 من نيسان الحالي، يطالب وزارة الأوقاف بالتعميم على جميع خطباء المساجد، بتعليق صلاة الجمعة لأسبوعين، حرصًا على سلامة الأهالي من تفشي فيروس “كورونا”.
وجاء في بيان صادر عن التلي، في 4 من نيسان الحالي، أن “الأمة الإسلامية ابتليت بتعطيل الجمعة والجماعات في المساجد بحجة انتشار الوباء والمحافظة على حياة الناس، دون ضبط الأسواق المكتظة التي تكثر فيها المنكرات”، معتبرًا ذلك من “الحرمان وعدم تعظيم شعائر الله”.
وأردف التلي أنه “عند ضبط الشوارع والأسواق ومنع التجمعات والاعتصامات، إلى جانب إجماع أهل الفتوى على ضرورة إغلاق المساجد لفترة معينة تحقيقًا للمصلحة الشرعية لا حرج في ذلك”.
وكان القيادي السابق في “هيئة تحرير الشام”، “أبو اليقظان المصري”، تحدى أيضًا قرار “حكومة الإنقاذ” العاملة في إدلب، وأقام صلاة الجمعة، في 3 من نيسان الحالي.
وفي تسجيل مصور لـ”أبو اليقظان”، عبر قناته في “تلغرام” الأسبوع الماضي، رفض إغلاق المساجد لأي سبب كان، وقال إن “كورونا علمنا أن للمساجد دورًا عظيمًا في المحن والفتن، فإليها المرجع ومنها تخرج الفتوى ويرشد الناس، فلا تغلق أبدًا”.
ولم يكن ذلك حكرًا على القياديين، إذ شهدت وسائل التواصل الاجتماعي انتقادًا لإغلاق المساجد ومنع صلاة الجمعة، خاصة مع انتشار تسجيلات مصورة من أسواق وملاعب تجري فيها الحياة بشكل طبيعي.
“نحن جهة حكومية مدنية”.. الوعي الاجتماعي موجود
مدير مكتب العلاقات العامة في “حكومة الإنقاذ”، محمد سالم قاسم، قال لعنب بلدي إن تعليق صلاة الجمعة لأسبوعين جاء لتهيئة الأهالي لاتخاذ خطوات احترازية وللتخفيف من التجمعات، لأن مناطقها ما زالت في مرحلة الوقاية من فيروس “كورونا” وليس الانتشار.
أما بالنسبة للأسواق العامة، فقال القاسم، “أوقفنا البازارات الأسبوعية وأسواق الدواجن والمواشي والأسواق المكتظة”، أما الأسواق التي توجد فيها درجة ازدحام أخف فهي مفتوحة لقضاء حوائج الناس، متوقعًا إجراءات أشد في المرحلة المقبلة، خاصة إن رُصدت أي حالة إصابة بالفيروس في المنطقة.
ورصدت عنب بلدي في تقرير مصور حركة الأسواق في إدلب، وكانت أغلب وجهات نظر من قابلتهم أنهم لا يمكنهم الاستغناء عن مصدر رزقهم الوحيد، دون أي قرارات أو إجراءات لتعويضهم.
إجراءات إدلب.. فض التجمعات سبيل وحيد للوقاية
منذ منتصف آذار الماضي، بدأت “حكومة الإنقاذ” سلسلة من الإجراءات التعريفية والوقائية من الفيروس، وأغلقت تدريجيًا المدارس والمجمعات التعليمية والمعاهد والجامعات، وسط نشاط ملحوظ من منظمات مجتمع مدني ومؤسسات صحية في المنطقة، وأبرزها مديرية صحة إدلب ومنظمة “الدفاع المدني” ومنظمة “بنفسج”.
وفي 23 من آذار الماضي، شكلت “حكومة الإنقاذ” لجنة “الاستجابة الطارئة” للوقاية من فيروس “كورونا”، ومهمتها متابعة مدى تقيد الجهات العامة في الالتزام بالقرارات والتعميمات الخاصة، ووضع خطة طوارئ للتعامل مع أي إصابة بالفيروس.
مديرية الصحة شكلت بدورها فريق عمل مع منظمة الصحة العالمية، ومنظمات شريكة أخرى، لتخصيص ثلاثة مشافٍ لاستقبال حالات فيروس “كورونا” خلال 15 يومًا، مع إنشاء 28 مركز عزل مجتمعي لاستقبال الحالات المشكوك فيها، إلا أن تلك المخصصات “لن تستوعب الأعداد المتوقعة في حال حصل التفشي”.
وقال رئيس دائرة الرقابة الدوائية في مديرية صحة إدلب، مصطفى السيد الدغيم، في حديث سابق لعنب بلدي، إن العزل الاجتماعي ودوام التعقيم هو أساس مكافحة الفيروس، والحائل الوحيد أمام تزايد أعداد الوفيات.
وأكد أن على أهالي المنطقة الامتناع عن الخروج إلى الأسواق والمدارس والجامعات والمساجد دون ضرورة قصوى، وعلى من يخرج اتخاذ طرق الوقاية المناسبة، وغسل اليدين بالماء والصابون والمعقمات ذات نسبة كحول 70 أو 80%، والابتعاد عن مخالطة الأشخاص المتوقعة إصابتهم.
التزام البيوت وعدم النزول إلى الشارع هو السبيل لاستيعاب الفيروس، حسب رأي السيد الدغيم، مشيرًا إلى ما عانته الدول المتقدمة في أوروبا من مصاعب استيعاب الحالات المصابة، وداعيًا سكان المنطقة للتعاون معًا لمواجهة “كورونا” بفعالية.
“الصلاة يمكن أداؤها في المنزل”.. المجتمع يبدي رأيه
أحمد الإمام، الذي يعمل في مديرية الصحة حاليًا بمدينة إدلب، والمتخرج في كليتي الشريعة والأدب الإنجليزي، قال لعنب بلدي إنه يوافق على إلغاء صلاة الجمعة وإغلاق المساجد بسبب غياب أدنى مستوى من مقومات الصحة العامة في المنطقة، ما يوجب على الأهالي عدم الاستهتار بالأمر.
واستدل أحمد برأيه على أن دولًا أوروبية وأخرى عظمى معروفة بتقدمها العلمي في المجال الطبي لا تستطيع السيطرة على الفيروس، وتخسر المليارات يوميًا من أجل حصاره.
أما المساجد فلها دور يجب أن تؤديه، وذلك من خلال نشر التوعية الصحية والدعاء برفع البلاء والفرج بعد كل أذان، بحسب أحمد.
وأجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي عبر صفحتها في “فيس بوك”، بسؤال: في إدلب رفض بعض القادة قرار إغلاق المساجد، وطالبوا بإغلاق الأسواق قبل ذلك.. هل أنت مع هذا الموقف؟ ولماذا؟
صوّت على الاستطلاع ألف و200 شخص، 67% منهم أجابوا بأنهم مع الموقف، و33% منهم أجابوا برفض الموقف.
وتباينت التعليقات على الاستطلاع بين مؤيد لإغلاق المساجد ومعارض له، فعلّق حساب “أحمد أبو علي” أنه ضد قرار القادة، لأن الأسواق باب رزق ومعيشة لمعظم الناس الفقراء والمحتاجين، أما المساجد فتقضى الصلاة فيها بصلاة في البيت.
لكن عبد السلام الحمص، قال إنه مع قرار القادة بفتح المساجد وإغلاق الأسواق، لأن الأخيرة أكثر اكتظاظًا بالناس من المساجد.
عبد القادر قباني قال إنه ضد قرار القادة ومواقفهم الداعية لفتح المساجد، وذلك لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والضرورات تبيح المحظورات، وفي هذه الحالة لا مخالفة للشرع برأيه.
في حين طالب حساب “أبو حاتم دوما” بعدم نقاش هذا الأمر وإعطاء كل شخص رأيه، بل ترك الحديث فيه لأهل الطب وعلماء الدين فقط، ومن يعطي رأيه بلا علم ويتسبب بموت إنسان فيحمل وزر موته، لأن الأمر “خطير وليس تسلية”، بحسب رأيه.
ما حكم الشرع في هذه الحالات؟
الشيخ وليد الخطيب، ابن مدينة بنش في ريف إدلب، وأمين سر لجنة الفتوى في وزارة الأوقاف الكويتية، قال لعنب بلدي، إن كل الشرائع السماوية جاءت لحفظ “الكليات الخمس”، التي يسميها البعض “الضروريات الخمس”، وهي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسب، وحفظ المال.
واستشهد الخطيب بكلام للإمام “أبو حامد الغزالي”، بأن “كل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة”.
وما يُعرف من الشرع، أن حقوق الله مبنية على المسامحة، وأن حقوق العباد مبينة على المٌشاحَّة والمطالبة، بحسب الخطيب.
عضو المجلس الإسلامي السوري في اسطنبول عبد الله عبد الهادي العثمان، قال لعنب بلدي إن الفقهاء اتفقوا على ترك الجمعة والجماعات في حال خوف الشخص على نفسه من مرض أو غيره، فإذا كان هذا في حال الفرد فمن باب أولى في حال المجموع.
ومن مقاصد الشريعة حفظ النفس، وهذا يتطلب حمايتها من الضرر، كما يتطلب حماية الآخرين، لحديث النبي محمد “لا ضرر ولا ضرار”.
وبحسب العثمان، فإنه في هذه الحالة مع تفشي المرض بسرعة يُرجَع لأهل الاختصاص بالأمر، وهم الأطباء، لقوله تعالى: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”، وهم الأطباء في هذه الحالة، وأكدوا ضرورة منع التجمعات.
والمنع يشمل جميع التجمعات من الجمعة إلى الجماعة إلى الاجتماعات في أماكن واحدة، بحسب العثمان، وأما التوجه للأسواق فيكون بحسب الحاجة مع وجوب أخذ كامل الحيطة، وعدم التجمع، ويبقى هذا المنعُ ما بقيت الحاجة.
وختم العثمان بقوله، “لئن نخطئ في منع الناس من الجماعة مع احتمال نجاة الناس، خير من أن نخطئ في السماح لهم مع احتمال الهلاك”.
شارك في إعداد هذه المادة مراسل عنب بلدي في إدلب يوسف غريبي