تدمير ثورة
إبراهيم العلوش
لا يزال كتاب الباحث الهولندي نيقولاس فان دام (تدمير وطن) الذي صدر عام 2017، مثار نقاش وجدل في الأوساط السورية، رغم الاعتراضات والتوافقات عليه من كثير من الجهات المعارضة والمؤيدة، فهل أنصف السوريين في كتابه، أم كان جهده مجرد صفحات جديدة من صفحات المقولات الغربية التي تستعدي الأغلبية وتجند الأقليات كأعداء أبديين للأغلبية السنيّة.
ينقل الكاتب عن توماس فريدمان الصحفي الأمريكي الشهير، تصريحه في العام 1989 عن ضرورة التسامح والصمت عن جرائم الأسد الأب، لينجو المجتمع السوري من حرب أهلية قد تمتد لأربعة عشر عامًا كما كانت في لبنان.
وتشكل هذه المقولة ركنًا أساسيًا في بنية الكتاب وتحليلاته، سواء بسبب براغماتي يتطلع فيه الكاتب إلى استمرار سوريا على ما كانت عليه قبل ثورة 2011، أو بسبب إصرار القوى الغربية على استمرار سوريا بذلك الشكل الطائفي، الذي يسهل التحكم به من قبل الغرب، وذلك باعتبار الأغلبية كأنها جيوش منظمة ومعادية للغرب، وليسوا مجرد بشر يحلمون بالحرية والكرامة.
سكت السوريون عن جرائم الأسد الأب في الثمانينيات، وصمتوا عن استمرار تعذيب أبنائهم طوال أعوام طويلة، ولم يطالبوا حتى بالاعتراف بالضحايا المدنيين في حماة وحلب، الذين لم يكونوا على علاقة لا بالنظام ولا بـ”الإخوان المسلمون”، فماذا كانت النتيجة التي جناها السوريون من هذا الصمت؟
النتيجة كانت جريمة جديدة ارتكبها أبناء المسؤولين الذين نفذوا جرائم الثمانينيات في حلب وفي حماة، وهي تدمير الثورة السورية التي كانت ستشكل نقلة نوعية للحياة في سوريا، وفي بنية النظام السياسي الحاكم، لو استجاب لها بشكل سلمي، ولكن لم تكتفِ الطغمة المخابراتية بضحايا المئة ألف بين شهيد ومعتقل في تدمر أو في صيدنايا أو في غيرها من عشرات المعتقلات ذات السمعة الإرهابية المرعبة في زمن الأسد الأب.
بل كانت نتيجة الجريمة الجديدة هي قتل أكثر من نصف مليون سوري، وتهجير خمسة ملايين إلى خارج سوريا، وتهجير ستة ملايين داخل سوريا، وتسليم البلد للاحتلال الروسي- الإيراني وبشكل شرعي برعاية قادة الجيش ومخابراته الطائفية.
يصرّ المؤلف على تطبيع وجود النظام المخابراتي ليس لأنه خيّر بل لأنه لا أحد يستطيع إزالته، ورغم رفض النظام السلمية والتفاوض منذ بداية الثورة حتى اليوم، فإن المؤلف يصر على أن استمرار النظام هو النتيجة المرجحة. فالسوريون اليوم عليهم أن يعودوا إلى النظام مرغمين وبعد كل هذه الخسائر الفادحة، ليؤسسوا جريمة قادمة ضد أبنائهم قد تتمثل بعد عدة عقود في إخلاء سوريا وتأجيرها كمستوطنات للصين وإيران وروسيا ليحلوا مشاكلهم الاستراتيجية، وليؤمّنوا ممراتهم البحرية في طريق الحرير أو في الهلال الشيعي أو في غيره من الأفكار، التي لا تزال حبيسة الأدراج في مكاتب الدول الكبرى والصغرى.
عبر 330 صفحة، يرصد المؤلف تفاصيل كثيرة ومهمة في التاريخ الحديث لسوريا، ولكنه يحاول جاهدًا أن يثبت أن صلاح جديد وحافظ الأسد ومن بعدهما بشار الأسد ليسوا طائفيين بل هم قوميون ووطنيون، وسوريون يؤمنون بالوطنية السورية، لكن حملة دعم وترسيخ النظام التي اتكلوا عليها كانت ذات حمولة طائفية، وأجبرتهم على انتهاج الحل الطائفي في الثمانينيات، وفي التصدي لثورة 2011، وهم وقعوا ضحية حسن نيتهم تجاه أبناء قراهم الذين اعتمدوا عليهم لبناء الدولة العربية الاشتراكية العلمانية، ولكن هذه الدولة خرجت بقلب طائفي نابض بالجشع وبحس الغنيمة.
كما يرصد الكاتب تاريخ سوريا، ويبرر الديكتاتورية البعثية بأنها استمرار لديكتاتوريات راسخة في البنية السورية عبر العصور، وأن سوريا لم تعرف الديمقراطية والحرية عبر تاريخها كله، وكأنما الدول الأخرى لم تمر بالعصور الحجرية والعصور الدينية وغيرها من التنويعات التي سبقت الديمقراطية الحديثة.
ويلوم الكاتب سياسة الأسد الأب وسياسة الأسد الابن، وعدم حكمتهما في الحفاظ على التوازن الذي فرضاه على أبناء المدن وتنكرا له بارتكاب المزيد من الجرائم، ووصلت أخيرًا إلى جرائم النظام الحالية التي يدرك اليوم أنها لم تعد قابلة للغفران والتسامح، كما يقول الكاتب.
كرّس فان دام حياته لدراسة سوريا وتاريخها وهو معجب بكل تفاصيلها، ولا يزال يكرّس المزيد من جهوده من أجل حل سلمي في سوريا يوقف حمام الدم الذي قد لا ينتهي خلال العقود المقبلة، كما يقول المؤلف، ما لم يتم التوصل إلى حل سياسي تفرضه الدول الغربية التي خدعت الثورة السورية وأوهمتها بالمساعدات الحتمية، وأوهمت السوريين بأنها ستعاونهم بخلع نظام المخابرات الأسدي، والمساعدة في بناء سوريا وفقًا للمقاييس الغربية في المدنية وحقوق المواطنة.
لكن مع دخول الصراع مستوى دوليًا، تخلى الغرب عن وعوده وترك لدول الخليج وتركيا وإيران وروسيا العبث بالساحة السورية وتمزيق أوصالها بشكل وحشي.
أهمل الكاتب الجوانب الاقتصادية، والثراء الفاحش لضباط المخابرات ولعائلة الأسد، فرامي مخلوف مثلًا لا يقل أهمية عن بشار الأسد في تفاقم الأحداث، عبر النهب وتقويض الشرعية الاقتصادية والعبث بالقوانين لمصلحته وبشكل علني، وهذا يشكل استمرارًا لنهج الفساد الذي أسسه حافظ الأسد وأخوه رفعت عبر تحويل سوريا إلى غنيمة لضباط الجيش ولعائلته.
وتتكاثف الأفكار في كتاب نيقولاس فان دام الذي يمتلئ بكثير من المقولات المتعددة، ويحاول المؤلف عبر الكتاب سبر أغوار ما يجري من خراب في سوريا التي يحبها ويتغنى بجمالها وبتسامح أهلها، وسواء كنا نشاركه الرأي أو نعارض بعض أفكاره فإن كتابه عمل مهم ومخلص، ويستحق القراءة.
ورغم أن كتابه الأول عن سوريا “الصراع على السلطة في سوريا” قد طغى عليه حينها كتاب باتريك سيل “الصراع على سوريا”، إذ كتبه سيل في كنف الأسد الأب، وكانت صحف النظام تهلل بعبقريته وإشادته بحافظ الأسد، إلا أن كتاب فان دام كان له أثر مختلف عندما قرأناه في نهاية التسعينيات وكان على شكل صفحات مصورة “فوتوكوبي”، وهي الطريقة القديمة لتهريب الكتب في عصر الأسد الأب قبل عصر الإلكترونيات الحديثة ونسخ الـ”pdf” الأنيقة، فقد كانت قراءة كتاب نيقولاس فان دام يومها قد تتسبب بالتعذيب وبالسجن الطويل لمرتكبها في عصر الأسد الأب الذي كان قوميًا ووطنيًا وعلمانيًا، كما يقول المؤلف في كتابه الجديد (تدمير وطن).
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :