“توب العيرة”.. وهم الوطن البديل

  • 2020/04/05
  • 12:30 م

نبيل محمد

في الوقت الذي تبحث فيه أسرة كاملة شرّدتها الحرب خارج سوريا عن بلدان آمنة للحياة، وعن “أوطان بديلة”، تعود ربة هذه الأسرة وعميدتها إلى سوريا، صورة فيها من الرمز والإيحاء ما يقارب مفهوم الوطن بمعزل عن القضايا السياسية التي تعتمل فيه، وبمعزل عن الحروب والهجرات.

بمفهوم الوطن المجرد الذي يظهر في عيني عجوز جاوزت الثمانين، تجبر أبناءها على إعادتها إلى دمشق في ظل أعتى الظروف الحربية التي تعيشها، لتعيش في بيتها وحيدة، فالجدة “سوسو” أم الأبناء السبعة تفهم الوطن هكذا، بشكله المجرد، “سوسو” واحدة من أبطال فيلم “توب العيرة” للمخرجة لين الفصيل، الذي عرض في منتصف شباط الماضي بمهرجان “المرأة العربية” في الدنمارك، والذي حضرت فيه أربعة أفلام سورية حديثة صنعتها سيدات.

عائلة سورية كبيرة، تكافح النساء فيها لخلاص أسرهن، فالعائلة الكبيرة التي دُمّرت أغلبية منازلها في مناطق من ريف دمشق، ولجأ أفرادها إلى دول شتى عبر العالم، بعد تعرض بعضهم للسجن والتعذيب، وبعضهم للملاحقة الأمنية، لا تجتمع مع بعضها إلا في لحظات الوداع، ففي بيروت حيث تسكن دعاء، يجتمع بعض أفراد العائلة لوداعها بعد حصولها على موافقة للجوء في النرويج، فتأتي أمها (الجدة) “سوسو” مع أختها من دبي، للوداع، ويختزل الجميع في أحاديثهم مفردات الكارثة السورية التي دائمًا ما يجدون فيها زاوية للهروب نحو الأفضل، والقول “وضعنا أفضل من وضع غيرنا”، تلك المقارنة القاسية التي لم تعد تحمل في طياتها سوى تكرار استذكار مأساة الآخرين ومأساة الذات.

بين لبنان والإمارات وألمانيا والنرويج وكندا، ينتشر أفراد العائلة، بينما يجتمعون بحرصهم على الأم “سوسو” التي تعيش مع ابنتها في دبي، وتصر على العودة للحياة وحدها في دمشق، وهو ما يرفضه الجميع، إلا أن إرادتها وصلابتها ومنطق فهمها للحياة، يعيدانها إلى شرفة منزلها الدمشقية لتشرب القهوة صباحًا ومساء كما تشاء، في البيت الذي أصابته القذائف مرتين، لكنها قادرة على الاستمرار فيه، مؤمنة بـ”وهم الأوطان البديلة”، الوهم الذي يبدو أن أغلبية العائلة تعيه، إلا أن هذا الوهم، لا يعني أبدًا أن الوطن الحقيقي قابل للحياة، وهو ما يتبدّى مع عودة “لين” مخرجة العمل إلى دمشق، لمحاولة رؤية الوطن بشكل مختلف، لكن الكاميرا المتنقلة بين المشاهد المعتادة في دمشق التراث والتاريخ والبساطة، تتبدد عند أول حاجز عسكري يطلب منها هويتها ويشعرها بأن حضورها غير مرحب به هنا وهي ابنة درعا، منطلق الحراك الثوري ضد النظام.

“توب العيرة ما بدفي” مثلٌ شعبي يجتمع عليه الحفيد الشاب المقيم في أوروبا والجدة المسنة المقيمة في دمشق، بما يفصل بينهما من مسافات، جملة لن تبدد سعي أفراد العائلة في المهجر لإيجاد أوطان بديلة، ولن تزيد “سوسو” إلا انتماء لوطنها الذي عادت إليه أخيرًا بكل تفاصيل الحرب والموت والحزن المحيطة به.

لعل تفاصيل حياة هذه العائلة، أشبه بآلاف التفاصيل التي عاشتها عشرات آلاف العائلات السورية، بكاء فردي، ضحك جماعي، ذاكرة حاضرة أكثر من حضور الواقع، مأكولات سورية على أي قادم من دمشق أن يحملها معه قبل أي شيء آخر، جلسات دائمًا ما ينقصها أفراد موجودون في دول أخرى، مطارات، بيوت مؤقتة، مؤجِّرون، وكاميرا تحاول توثيق كل هذه اللحظات.

بين بيروت ودمشق ودبي انتقلت كاميرا “لين الفيصل”، الفيلم الذي أنتجته سارة حسن وشركة “كرييتيف ميديا سوليوشن”، بدعم من مؤسسة “بدايات”، لترتّب تلك المشاهد في حكاية قد يكون ترتيب مشاهدها مربكًا: أي وداع سيكون هو بداية الفيلم؟ وأي وداع سيكون هو ختامه؟ من سيرحل قبل من؟ وإلى أين؟ وبثقة تنتقي شخصية جدتها “سوسو” لتكون هي المحور الناظم للحكاية، المحور الذي يمكن لعينيه أن تقولا ما يصعب على لسانه قوله، دائمًا وفي كل الظروف.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي