سيرين عبد النور – ديرالزور
كأرملة حزينة وأم ثكلى فقدت زوجها وأبناءها دفعة واحدة، فألجمها الذهول وآثرت الدخول في عدتها وحدادها، تبدو ديرالزور للسيدة السبعينية وابنة المدينة أم سعد، التي تغلق عينيها لتهرب من حاضر المدينة نحو «ذكربات الزمن الجميل.. النور والفرح والحياة»، وتشرع واصفة حال المدينة «نحن هنا نكره الصمت والسواد».
حلّة غريبة
لمن سبق وعرف المدينة، فجولة سريعة في شوارعها كافية لملاحظة التغيير الكبير الذي اجتاحها؛ رجال المدينة يرتدون الثوب القصير وتحته بنطال فضفاض، أما نساؤها فيرتدين «الشادور»، وهو عباءة سوداء تغطي الرأس وكامل الجسم، في مشهد غريب عن أحياء المدينة.
«أين نحن الآن؟» تتساءل الحاجة أم سعد، وترينا شهادة «معهد إعداد المدرسين» التي نالتها في ستينيات القرن الماضي، ويبدو أن سيلًا من الذكريات عاودها، إذ ارتسمت على ملامحها ابتسامة، في حين تصف الحياة الآن في المدينة بـ «الجحيم» إثر القوانين التي فرضها تنظيم الدولة على النساء في سفرهن وتنقلاتهن وتفاصيل حياتهن، «لقد عدنا إلى عصر المرأة الخادمة، حيث بيتها قبرها».
تموز 2014 كان نقطة التحول في حال المدينة، فشهر ونصف من المواجهات بين تنظيم الدولة وفصائل مقاتلة من النصرة، والجبهة الإسلامية، والجيش الحر، انتهت بتقدم التنظيم وفرض سيطرته الكاملة على ديرالزور ريفًا ومدينة، «مستعينًا بالإرهاب والبطش، ومتسترًا بالدين حينًا، ومتواطئا مع البعض منا حينا آخر»، بحسب وصف أبو أحمد أحد أبناء المدينة.
يتابع أبو أحمد حديثه بينما يتناول علبة سجائر أخفاها جيدًا، خوفًا من الحسبة، «لقد أصبحنا مطاردين، نعيش الخوف حتى في بيوتنا… كل شيء هنا يحتاج إلى إذن من الوالي وورقة من التنظيم».
بينما يشير ناشط آخر إلى صور لجدران مدمرة، حيث تتربع ذكرياته عن الفترة التي سبقت دخول التنظيم، وعن توثيق معالم المدينة، وأحداثها، والدمار الذي خلفه قصف النظام فيها، ويعلق «ربما كانت مدينة مدمرة، لكنها صور تنبض بالحياة لمدينة يملؤها الأمل».
نبض الحياة متوقف ومقوماتها غائبة
يرى عمر، مقاتل سابق في الجيش الحر، أن ديرالزور باتت «منكوبة» وأن «التنظيم نجح في خنق المدينة التي فشل الأسد في إخضاعها»، ويعتقد أنه لم يعد فيها سوى الخوف والرعب وأن الحياة فيها انعدمت.
ففي منتصف العام 2014 تجاوز عدد سكانها الـ 70 ألفًا، سعوا لإعادة الحياة إلى المدينة، وتدوير عجلة العمل في مختلف القطاعات من جديد بدعم من منظمات دولية، وبإشراف مجلس المحافظة المنبثق عن الحكومة المؤقتة التابعة للإئتلاف.
ومع دخول التنظيم والتشدد الذي فرضه على كل نواحي الحياة، «انهار كل شيء في المدينة، وأغلقت مدارس ونقاط طبية عديدة، وابتعدت أغلب المنظمات خوفًا على كوادرها»، بحسب حسن، العامل في كادر المدينة الطبي سابقًا، وانخفض عدد السكان إلى الثلث بعد أن غادر كثيرون مدفوعين بالخوف من التنظيم، وإثر قوانينه التي يعتبرها ناشطون «تتقصد تهجير السكان المحليين لتوزيع بيوتهم على المهاجرين القادمين من أصقاع الأرض». ويؤكد حسن أن حركة النزوح عن المناطق الخاضعة للتنظيم مستمرة، إذ «فقد الأهالي هناك أدنى مقومات الحياة».
وبعيدًا عن تضييق التنظيم اجتماعيًا وتشديده على الأهالي، يطال الغلاء مختلف السلع والأغذية والمشتقات النفطية، وسط شح في المواد الصحية الأساسية، و»كل شيء بات برسم البيع»، كما يقول الناشط حسام.
«يكلف برميل المياه حوالي 150 ليرة، بينما يكلف آمبير الكهرباء حوالي 1200 ليرة أسبوعيًا»، ويقول حسام إنه فضلًا عن الضرائب والغرامات المتزايدة التي يفرضها التنظيم، فإنه بصدد فرض رسوم دخول إلى المشفى الوحيد في المدينة.
وروح المدينة ممزقة
المشهد العام للمدينة يلخصه حسام بالقول، «كانت مدينتَنا… نعرف أبوابها وشوارعها ونألف مساجدها وكنائسها… لم يعد هناك ما يشبهنا، كل شيء غريب؛ الوجوه، الأصوات، اللهجات، حتى اللغة وأسماء الأشخاص والمحلات؛ شيء من روح المدينة هاجر بعيدًا ولن يعود». فسكان المدينة باتوا ظلالًا بشرية، تتجنب بطش التنظيم وتخشاه؛ وساحاتها باتت لاستعراض بطولات التنظيم سواء عبر عرضها على شاشات كبيرة، أم عبر تطبيق أحكامه مباشرة وعلنًا بحضور الأهالي.
مسحت «الدولة» العديد من معالم المدينة، وشوهت وجدان وذاكرة أهلها، فلم تسلم لا المقابر ولا المساجد ولا الكنائس من انتهاكاتها، كما يتهمها ناشطون بالتنقيب عن الآثار وبيعها.
«لا شك أن المدينة تغيرت كثيرًا عن سابق عهدها إثر القصف المستمر، لكننا لم نشعر بهذه الغربة قط»، كما يقول حسام عن الفترة التي سبقت سيطرة التنظيم، «آنست الأحجار وركام المنازل وحشة المشهد، كنا نلوذ بصور شهدائنا ونستقي منها زاد الصبر والقوة».
ولا يتوقف سيل الحنين للمدينة في سابق عهدها عند حسام، وكل من التقتهم عنب بلدي يجيش حنينهم إليها، ويتملّكهم شعور بالغربة رغم وجودهم داخل أزقتها. وجدار ملعب اليقظة في حي الحميدية يروي حالهم بعد أن كتب عليه أحدهم «القمح مرٌ في حقول الآخرين والماء مالح».